 
						الفصل الثالث قصة الدكتور والراقصة
-سيبك منه، يالا نكمل جولتنا…
=قصدك إنه كده كده هيظهر؟ تمام..
كمل القصة…
-“عنايات” و”مؤنس” كانوا متعودين كل فترة يعزموا أصدقاء ليهم، يدردشوا معاهم، يلعبوا الكوتشينة، و”عنايات” تعمل فقرة استعراضية..
=يعني إيه تعمل “فقرة استعراضية”؟
-يعني من وقت للتاني بعد ما تتقل في الشرب تقوم فجأة كده وتفضل تتطوح وترقص كإنها على مسرح، رقص بلدي على أفرنجي، بترجع لأيام ما كانت نجمة وتتخيلهم جمهور..المهم في ليلة، “مؤنس” حضر الكوتشينة في وجود راجل ومراته من أصدقائهم وكان متحمس جدًا للعب لكنه اتفاجأ ب”عنايات” جيالها نوبة من النوبات إياها، شغلت الزمبليك وطلعت على الطرابيزة وهاتك يا رقص، الراجل ومراته انبهروا بأدائها وفضلوا يسقفولها ويغنوا كمان، والليلة باظت! ده بالنسبة ل”مؤنس” طبعًا، كانت متعته لعب الكوتشينة وكان لعيب، أي لعبة بيعرف يكتسح فيها، كان جايب أخره، متغاظ وقامط وصامت، فضل كده زيه زي الأنتيكات في البيت، لا بيهش ولا بينش ولا بينطق باقي الليلة، و”عنايات” ضحك وهزار وكلام بصوت عالي، كان حضورها طاغي، زي ما بيقولوا كده كاريزما، وفي آخر القعدة لما الضيوف قرروا يمشوا، “عنايات” قالت ل”مؤنس” يطلع عالشارع ويوقف حنطور بس يكون حنطور محترم، العربية اللي ورا تكون شرحة وعلى مستوى مش الحناطير السوقية الأي كلام، “مؤنس” خرج وفضل واقف أكتر من ساعة مش لاقي الحنطور الملكي اللي يليق بصحاب الهانم، وفي الآخر زهق وتعب فوقف أي حنطور ودخل ندههم..
“عنايات” خرجت معاهم ووصلتهم وشاورتلهم بإيدها وهم ماشيين، وسبقت “مؤنس” في الدخول من غير ما توجهله أي كلام…
لما دخل بقى أجارك الله شتيمة وزعيق وتهزيق، عاتبته على الحنطور العِرة اللي وقفه وإزاي كسفها قدام صحابها وعلى تقل دمه ليلتها، وإنه كان باين عليه إنه مش مرحب بيهم، وإنه أصلًا ممل، حتى لو حاول فهو ممل وهيفضل ممل وإنها متعرفش إيه اللي عملته في حياتها عشان ربنا يبتليها بيه، وبعدين راحت على مكان الدفاية ورفعت البرواز اللي فيه صورة عشيقها السابق وشاورت عليها وهي بتقول:
“شايف، شايف الرجالة اللي أقدر أدوبها، شايف عُشاقي شكلهم إزاي، وسامة، وطول وعرض وصحة! أنا اقدر أجيب زيه واللي أحسن منه كمان، عشان بس تفضل فاكر”…
كانت عاملة زي الحيوان الجامح الغضبان، صوتها يكسر طبلة الودن، ومفيش أي إشارة إنها هتقف قريب… في عز ثورتها “مؤنس” قال:
-تيجي نصب كاسين؟
“عنايات” سكتت وقالتله:
-تمام!
…………………….
“شد الحزام على وسطك غيره ما يفيدك”!
سمعت الجملة دي، واحدة ست كانت بتغنيها! تنحت ل”مازن” اللي لقيته هو كمان متنحلي، إحنا الاتنين سمعنا الغُنا…
قلتله:
=الصوت ده جي منين؟
اتلجلج كده وهو بيقول:
-ت…تلاقيه من بره البيت.
=لأ، لأ الصوت قريب، ده من هنا، من البيت.
-من البيت إزاي بس وإحنا لوحدنا؟
=مش أنا قلتلك إن في دكتور غيرنا.
-بس ده صوت ست.
=يبقى في ست كمان، أكيد.
-سيبك منها.
=هو إيه اللي سيبك سيبك، هو في إيه؟
-طب حابب نمشي من هنا، نخلص الجولة على كده؟
=لأ، عايز أسمع باقي القصة ولسه مشفتش كل البيت، تعالى نروح الناحية دي…
شاورت على اتجاه المطبخ اللي قال لي عليه…ومشينا ناحيته، كان باين على “مازن” إنه مش متحمس أبدًا، كان ماشي ببطء، بيقدم رجل ويأخر رجل…
ودخلنا المطبخ….
كان ضخم، مساحة شاسعة، مبالغ فيها، ليه كل ده؟ كان يسيع ده كام طباخ؟ وعشان مين، “مؤنس” ومراته وضيوفهم اللي أكيد مكنوش بييجوا كل يوم؟
السقف عالي والنمليات كتيرة ومتثبتة على الحيطان في كل مكان وكان في طرابيزة كبيرة، تحسها طرابيزة موائد، والريحة لا تطاق، الرطوبة والعفن والتراب، حاجة بشعة…
بس أكتر حاجة شدت انتباهي إن مفيش حد شد انتباهي! أيوه، مكنش في غيري أنا و”مازن”، أمال الدكتور راح فين؟
بدأت كده تجيلي أفكار غريبة، هو كان في دكتور أصلًا؟ والسؤال الأهم اللي شفته ده كان إيه؟ وبمواصفاته كده مش بيفكرني بحد عمالين نجيب في سيرته، الدكتور “مؤنس”!
هم سكان المنطقة عندهم حق؟ البيت ده…..مسكون…
كإن “مازن” بيقرا أفكاري، نظرته ليا بتقول إنه فهم إني استوعبت اللي بيحصل ورجع عاد عليا الكلام:
-ممكن نوقف الجولة ولو حابب نرجع في يوم تاني من الصبح…
=هتفرق في إيه صبح من ضهر من ليل؟
-أهو، يعني عشان لو وراك حاجة تعملها في اللي متبقي من اليوم، الساعة داخلة على أربعة…
=لأ، هنكمل!
-تمام، اللي تشوفه….بعد إسبوعين من الليلة دي، مجموعة من صاحبات “عنايات” جم البيت وخبطوا… اللي فتحلهم “مؤنس”، سألوه عنها، وطى راسه كده وقال لهم…
“للأسف عنايات اضطرت تسافر فجأة عشان جالها تلغراف من قرايبها في الصعيد بلغوها إن خالتها تعبانة شوية ومحتاجة تشوفها لإن ساعتها قربت”
قالوله لما تيجى تبقى تكلمهم في التليفون ولا تبعتلهم… وبس، يوم في التاني في التالت والرابع والخامس و”عنايات” لا حس ولا خبر، لحد ليلة راس السنة، الليلة اللي “مؤنس” راح فيها التياترو عشان احتفالية راس السنة، ومكنش لوحده…لأ، مش معاه “عنايات”، معاه وحدة تانية! كبيرة الممرضات اللي شغالة معاه في المستشفى “كاميليا”، كل أهالي بورسعيد كانوا متجمعين هناك، والكل كان بيبصله بذهول، أولًا إيه البجاحة دي، ثانيًا فين “عنايات”؟ جايب وحدة ست غيرها في احتفالية زي دي وواضح إنه راندفو ومراتك غايبة عند أهلها واحتمال يكون عندها حالة وفاة؟ ألا صحيح هي فعلًا عند أهلها في الصعيد؟
=هو إيه الافترا ده، يعني متعاطفين معاها عشان بقى ليه عشيقة وهي عادي كان ليها عشاق ومعلقة صورة واحد منهم في البيت؟
-أهو بقى، مانا قلتلك كانت كاريزما، وست قوية ومفترية وكان ليها تأثير على كل الناس اللي يعرفوهم، وعدت الأيام و”عنايات” مظهرتش، وفي بلاغات جت للشرطة بإنها متغيبة، وجهات التحقيق بدأت تتحرك…
“مؤنس” لقى على بابه رئيس النيابة مرة واحدة، كان جي “يدردش” معاه، قال له على القصة اللي الناس بترددها، إنه قال إن خالتها تعبانة واضطرت تسافر لها وطلب منه التلغراف اللي جالها…
“مؤنس” قلع نضارته وفرك في عنيه وقعد على الكرسي الهزاز وقال بصوت مكسور:
“لأ، مش دي الحقيقة، الحقيقة إني قمت من النوم في يوم ملقتش “عنايات”، ببص في الدولاب لقيتها لامة كل هدومها وكل المجوهرات اللي هدتهالها، “عنايات” طفشت”…
رئيس النيابة سأله : “وليه قلت إنها سافرت عشان خالتها تعبانة”
رد عليه: “من الإحراج، دي فضيحة، طفشت وهجرتني”
“وكاميليا؟”
“كاميليا…حبيبتي، أنا مش هخبي عليك يا باشا، علاقتي ب”عنايات” بقت سيئة للغاية مؤخرًا وكنت ناوي أفاتحها في موضوع الانفصال وحبيت “كاميليا” وكنت بعد ما هطلق “عنايات” هرتبط بيها رسمي”..
رئيس النيابة صدقه واتعاطف معاه، “مؤنس” كان باين عليه متأثر جدًا وهو بيحكي، كإنه حاسس بالعار ومكسور وتعيس وحالته ضنك…
لكن باقي أهالي بورسعيد مكنوش مصدقين “مؤنس”، مع كل يوم غياب ل”عنايات” كانت بتتكون عندهم قناعة أكبر إنه عمل حاجة فيها، من الآخر قتلها…
رئيس النيابة فضل مصدق في براءة “مؤنس” وبيدافع عنه كل ما حد يفتح الموضوع لحد ما “مؤنس” و”كاميليا” اتفقشوا وهم بيحاولوا يهربوا لإيطاليا على سفينة!
ساعتها يا باشا البوصلة اتغيرت تمامًا وبصت الناحية التانية، ناحية “مؤنس”…
رئيس النيابة نفسه غير رأيه وبقى متأكد إن “مؤنس” هو اللي قتلها، أصل إيه اللي خلاه يهرب مع عشيقته، إلا لو عاملين عملة.
حجزه في القسم هو و”كاميليا”، وراح لبيت “مؤنس” لوحده…
“مؤمن” باشا، رئيس النيابة أصله كان عنده قناعة إن الإجابة بتبقى غالبًا في المكان اللي عايش فيه القاتل، لو ملقيناش الإجابة مش معناها إنها مش موجودة بتبقى بس مأدركنهاش، عشان كده لازم التركيز يكون عالي والعقل متفتح…
فضل يلف في البيت ده اللي إحنا فيه ركن ركن، في الدور اللي تحت والدور اللي فوق، في أوضة أوضة، بلاطة بلاطة، مرة واتنين وتلاتة، لحد ما رجله دابت، وفي اللفة الأخيرة كان وصل للدفاية، عدى من عندها وبعدين رجع تاني خطوات لورا، وده لإنه حس بحاجة غريبة، حاجة ممكن أي حد يعديها، إلا هو….
ملمس الأرضية قدام الدفاية غير باقي البيت، وكإن…في فجوة تحتها…
فضل يمشي على المكان ده كذه مرة واتأكد من إحساس رجله بالأرض والصوت، في حاجة هنا…
……………………………..
وقتها “مازن” مشي ناحية الدفاية وأنا مشيت معاه، وقف قدامها وقال:
-هنا بالظبط في نفس المكان اللي واقفين فيه كانت مقبرتها…
سألته وحواجبي مرفوعين لفوق:
=مقبرتها؟
رد عليا:
-“مؤمن” بص حواليه، لقى عصاية الفحم، جابها وابتدى يضرب الأرض بيها، الخشب اتخلع بسهولة ، فضل يحفر ويحفر لحد ما شاف جذع وصوابع وحوض وأعضاء، قلب وكبد، وفستان، مريب موضوع الأجزاء المتفرقة دي من غير جثة كاملة، ومش محتاجين نعرف الفستان ده كان بتاع مين… وفي وقت قليل “مؤنس” اتحاكم وأخد إعدام وعشيقته طلعت براءة على أساس مكنتش عارفة بإنه قتل مراته وملهاش علاقة بالخطة بتاعته…
…………………….
اتجمدت مكاني وده لإني سمعت حركة ورايا، جسمي كله اترعش، معرفش، حسيت إن صاحب الحركة مش حد عادي، قبل ما اتلفت لقيته قصادي، واقف ورا “مازن”، شاب طول بعرض، مش لابس حاجة من فوق، لونه شاحب، أبيض بس شاحب، وعنده شنب غريب جدًا، عريض وملولو من الأطراف، الشاب ده فجأة اتحرك، جه في اتجاهي، خطواته عنيفة ونظرته كلها غضب، كور صوابعه ومسك فيا كإنه هيضربني!
حطيت إيدي على وشي، وصرخت، مش صرخة واحدة، صرخت من غير انقطاع، صراخي كان حاد كإني اتعرضت لهجوم، “مازن” جري عليا ومسكني، فضل يتكلم، بيحاول يهديني، بس أنا مكنتش سامعه! مش سامع محتوى الكلام، من نظراته استنتجت بس إنه بيهديني…
أخيرًا بعد حبه هديت، كنت مندهش زائد إني مرعوب وده لإني قريت عليه إنه مشافش اللي شوفته، مشافش الشاب اللي كان هيهجم عليا، كان خايف بس عليا ومش فاهم…
معرفش ليه، بس مقلتلوش، اكتفيت بإني قلت إني عايز أمشي وحالًا…
بعد ما سيبنا البيت علطول، “مازن” قال لي معلومة غريبة جدًا، قال:
-تعرف يا “حكيم” إن مخ “مؤنس” وجمجمته وأنسجة من “عنايات” وأجزاء من جسمها موجودين في متحف.
=نعم؟
-اه ما هو كان في عناصر إنجليزية في تحقيق القضية والمحاكمة، ماحنا كنا تحت الاحتلال الإنجليزي وقتها، ظباط على مسؤولين، والموضوع انتشر ساعتها وفي علماء ودكاترة كمان اتدخلوا، مانت أكيد عارف إن في العصر ده الأجانب كانوا مهووسين بحاجة إسمها علم الإجرام والعلوم الإنسانية، وكان في نظرية بتقول إن شكل وحجم جمجمة الإنسان بتدل على سلوكه الإجرامي، وكمان بما إن القضية كانت زي قضية رأي عام وغريبة على مصر، يعني دكتور ورقاصة، وهي ليها عشاق وهو ليه عشيقة وكان خلاص هيفلت منها وهتبقى جريمة كاملة لولا إنه اتمسك قبل ما يسافر، كل الظروف دي خلتها قضية استثنائية، عشان كده حبوا يحتفظوا بتذكار وهي الحاجات دي، وحطوا أجزاء الجسم والأنسجة في محلول بحيث ميدوبوش جوه فازات إزاز…
بصتله بصة طويلة مكنش فاهمها…
تابع الفصل الرابع

