روايات ياسمين رحمي

قصة الدكتور والراقصة ياسمين رحمي كاملة

قصة الدكتور والراقصة ياسمين رحمي كاملة

بسم الله الرحمن الرحيم

القصة مستوحاة من أحداث حقيقية

كنت عايز أروح أي مكان غير القاهرة بعد ما شفت صاحبي بيموت قدام عيني خلال اقتحام وكر عصابة سرقة أعضاء بشرية، المفروض إن الاقتحام كان مفاجيء، العصابة مكنش عندهم فكرة إنهم اتقفشوا، وإحنا اتحركنا بعد نص الليل، الوقت ده كانوا متجمعين في الموقع بتاعهم ومش بيمارسوا أي نشاط إجرامي…

كانت شقة في فيصل، شقة في مبنى سكني عادي، لكن الجيران لاحظوا أصوات عالية كل كام يوم من الشقة دي، صريخ واستنجاد، أصوات أطفال ورجالة وستات، وعدد منهم بلغ الشرطة، بعدها جالنا بلاغ من شخص ادعى إنه هو نفسه بينتمي لعصابة لبيع الأعضاء البشرية والبلاغ كان عن نفس الشقة…

لما هجمنا على الشقة كان عندنا ثقة إننا مش هنلاقي مقاومة، إنهم نايمين في العسل ومش متوقعيننا، لكن اللي حصل كان غير كده….

خبطنا على الباب، محدش فتح، كنت أنا وصاحبي، احنا الاتنين ظباط، ومعانا 3 عساكر…

بعد التخبيط كذه مرة، كسرنا الباب ودخلنا….

هدوووووء، مفيش حس، في الأول تحس إنه بيت مهجور لكن بعد ثواني لاحظت حاجة، الريحة….

ريحة منتنة، مش وحشة، منتنة، كإنها عفن، لحمة صابها العفن، واحد من العساكر مد إيده على الحيطة وفتح زرار النور…

صاحبي “يوسف” سأل:

-مفيش حد هنا؟

جاوبته:

=معرفش..

كلمة معرفش دي مش بس إجابة لسؤاله، أنا دقات قلبي ساعتها بقت سريعة، وده لإني اتوغوشت، معرفش، تايه، مش متأكد ، بس في حاجة، حاجة مظلمة في المكان ده، وفي…حاجة…هتحصل…

فجأة لقيت نفسي بركز على أوضة معينة، بمشي في اتجاهها، كل الأصوات حواليا بقت صامتة وكل الرؤية مشوشة، مفيش غير باب الأوضة دي هو اللي واضح، وصلت للباب وفتحته….

الأوضة كانت فاضية تمامًا إلا من تلاجة، تلاجة ضخمة، قربت منها وفتحتها….

جواها، كمية رهيبة من الأعضاء!

في نفس اللحظة اللي بشوف فيها المنظر البشع جوه التلاجة سمعت صريخ ورايا، مكنتش مدرك اللي بيحصل، اتلفت بعيوني التايهة ولقيت “يوسف” مطعون في صدره، في 2رجالة ظهروا كانوا بيطعنوا في العساكر وفي يوسف…

مين اللي ضرب نار؟

في ضرب نار، حد ضرب رصاص على الاتنين الرجالة ووقعوا بعدها على الأرض غرقانين في دمهم، واتضح إن اللي ضرب الرصاص هو…أنا….

كإني كنت في غيبوبة أو حلم، مفزوع، مش مستوعب اللي بيحصل، لما لقيت الاتنين دول طعنوا صاحبي والعساكر، طلعت بسرعة المسدس وضربت منه طلقات، لكن…كان متأخر…

“يوسف” مات واتنين من العساكر، مفيش غير واحد نجي، باقي العصابة اللي كانوا في الشقة خرجوا زي النمل من جحورهم بعد ما سمعوا صوت الرصاص وسلموا نفسهم، عددهم كان 5 غير اللي ماتوا، كلمت الإسعاف والقسم عشان يبعتوا دعم…

“يوسف” صاحبي…مات…

أنا كان ممكن أكون مكانه، أنا اللي اتطعن وأموت، طعنة واحدة مخدتش لحظات كانت الفاصل ما بين الحياة والموت، كل الحكاية هو موقعي وموقعه، لو مواقعنا اتبدلت، لو هو اللي كان سابقني بخطوات وفتح التلاجة وأنا اللي وراه أنا كنت هبقى ميت وهو اللي مكمل!

برغم الفظاعات اللي بشوفها كل يوم بحكم شغلي بس الحادثة دي أثرت فيا بشكل غريب، مبقتش قادر أتخطى اللي حصل، مشهد “يوسف” وهو ميت قدامي ومعاه الاتنين التانيين كان بيتكرر كل شوية، وفجأة مبقتش مستحمل أعيش في القاهرة كلها، هواها بقى تقيل أوي بالنسبة لي، مش قادر اتنفس، كل حاجة كنت شايفها جميلة قبل كده اتحولت لبشاعة! الألوان باهتة والأصوات مزعجة والناس لا تطاق، ده غير…إني بقيت أخاف، أنا اللي اتعاملت مع سفاحين وعصابات وعقول مريضة وناس شهوتها الدم بقيت أخاف، مش من حد معين ولا من حاجة قادر المسها وأحددها، بقيت أخاف من القاهرة كلها، من بيتي وأوضتي وعمارتي، مدخلها وسلمها، من الشارع بتاعي والشوارع اللي حواليه، كل مكان، بقى روتين إني أصحى فجاة في أوقات غريبة بليل، أصحى مفزوع، أفضل الف في الشقة كلها وأنا بدور…على المجهول، خطر مش قادر أحدده، وبعد فترة استنتجت إني مش هينفع أقعد أكتر من كده، لو فضلت مكاني يا هموت يا هتجنن، كان لازم أروح مكان جديد، لازم أنقذ نفسي من المستنقع العقلي اللي وقعت فيه وعشان كده قدمت على نقلي….

مكنش فارقلي أروح فين، المهم أبعد، ومن هنا كان انتقالي لبورسعيد…

سبحان الله أول ما دخلت المدينة حسيت بالتقل بينزاح من عليا، لأول مرة ببتسم من وقت وأنا بتفرج على الشوارع هناك…

أجرت شقة في شارع لطيف قريب من البحر اسمه طرح البحر، يدوبك قضيت المتبقي من اليوم ما بين الشقة وشوية تمشية على البحر وتاني يوم بدأت شغل…

ضغط الشغل طبعًا أخف بكتير من القاهرة، المدينة هادية ومشاكلها قليلة وده خلاني اقدر اتنفس ويبقى عندي وقت فاضي أكتر….

اتعرفت على سواق تمناية، أخدت رقمه وكان بيوديني أي مكان عايزه، كان شاب، باين عليه متعلم ، دايمًا هدومه مفرودة ومنظره منمق، صوته مش عالي وكلامه موزون، بعد إسبوعين من معرفتي بيه قلتله:

=”مازن”، تسمحلي اسألك عن حاجة؟ بصراحة عندي فضول…

-اتفضل يا باشا طبعًا اسأل.

=أنت درست في الجامعة مش كده؟

-كده، أنا خريج حقوق جامعة القاهرة.

=معقول؟

ضحك وقال لي:

-ليه، عشان يعني شغال على تمناية، مانا جربت الشغل هناك، ملقتش شغل يأكلني عيش، رجعت على بلدي وشفت إيه الماشي، وبصراحة الشغل على التمناية مجزي عن الشغل في مكاتب المحاماة هناك!

=أنت دورت كفاية؟ مش لازم مكاتب المحاماة، أي شغل تاني.

-طب ما ده شغل برضه، زي أي شغل، لكن الفرق كمان إن دخله كويس، ده غير..إن مفيش وقت يا “حكيم” باشا.

=مفيش وقت؟

-اه، العمر مفيهوش، فجأة كده الواحد يلاقي نفسه لازم يحوش، يحضر شقة وفلوس لشبكة ومهر وفرح عشان لو ناوي يتجوز كمان كام سنة، ولازم يعمل حسابه قبل ما يخلف يكون عنده دخل كويس عشان العيال اللي هتيجي، مصاريف الدكاترة والمدارس وقبلهم البامبرز لمؤاخذة، ده لوحده عايز ميزانية، قول لي بقى يا باشا في وقت لده وللتدوير على وظيفة وتحقيق الذات؟

=والله عندك حق.

لف وبصلي بصة لئيمة وقال:

-أنت مش النهارده أجازة؟

=اه، عشان كده رايحين على السوق، أشوف الطلبات اللي هجيبها لإسبوع قدام على الأقل…

-طب ما تسيبك من الطلبات وأفسحك، معقولة تبقى كل ده في بورسعيد ومتروحش أشهر أماكن فيها؟

مودي فجأة اتبدل، بعد السكينة حسيت بتحمس وابتسامتي وسعت..سألته:

=هتوديني فين؟

-هسفرك في رحلة عبر الزمن، للماضي…

ولقيته غير اتجاه العربية وابتدى يدخل في شارع جانبي ورا شارع جانبي، يمين، شمال، يمين، يمين، شمال، دوخة، لحد ما وقف قدام بيت قديم شبه متهالك…

الشارع اللي وقفنا فيه، لا منه رئيسي وواسع ولا ضيق، وسط، كان عجيب شوية، لفت انتباهي العمارات الصغيرة اللي جنب بعضها واللي متختلفش كتير عن بعض والبيت ده…كإنه زرع شيطاني، مع نفسه، تصميمه وموقعه، كان بعيد شوية عن باقي العمارات….

“مازن” لف وبصلي وقال:

-وصلنا يا باشا.

=وصلنا فين؟

-انزل بس، هنعمل جولة في أشهر بيت في بورسعيد.

ده باينه متحف ولا بيت أثري، لكن متساب زي ما هو، متبهدل ومفيش اهتمام بيه، مشينا ناحية الباب وخلاص كنا هندخل لولا إني وقفت وسألت “مازن”:

=هو ليه البيت ده لوحده كده، يعني باقي العمارات على مسافة منه، وليه لسه موجود أصلًا، هو بقى أثر بقرار من وزارة السياحة؟

-لأ، ما هو… مفيش حد بيقرب من البيت، محدش حب يسكن جنبه، ولسبب ما الوزارة كمان مقررتش إنه أثر، متساب كده…

=أيوه ليه؟

-لما ندخل يا باشا.

ودخلنا….مع أول خطوة في البيت قلبي انقبض، أجواءه كانت كئيبة أوي…

-ده كان بيت واحد من أغنى سكان بورسعيد في وقتها، في العشرينات، من 100 سنة فاتوا…

انطلق “مازن” علطول في الكلام وقال جملته دي …

كمل وقال:

-كان دكتور جراحة اسمه “مؤنس” وكان متجوز فنانة استعراضية اسمها “عنايات”…

=فنانة استعراضية؟

-لمؤاخذة يعني يا باشا، رقاصة.

=وإيه لم الشامي عالمغربي؟

-أهو بقى، الحب يا باشا..

=يا باشا، يا باشا، متخلينا النهارده من غير ألقاب، دانت حتى المرشد بتاعي في الجولة دي، قول لي “حكيم” علطول، بتقول بقى الحب هو اللي وقعهم في بعض؟

-أكيد، أنا بفترض، أصل إيه تاني؟ الجراح كان بيتردد على التياترو اللي “عنايات” كانت بترقص فيه، صحيح ده كان دكتور ومن عيلة كبيرة وراجل متعلم بره مصر وجوه لكن برضه “عنايات” مكنتش قليلة، مش أي رقاصة، كانت رقاصة مشهورة، بيجولها الناس من بره بورسعيد مخصوص عشان يتفرجوا عليها…

الأرضية كانت خشب، متاكل، كل شوية رجلي تتكعبل بسبب الفجوات في الأرضية وريحة الغبار كانت رهيبة، عمالة أكح كل شوية، مكان مش مشجع خالص، لا يصلح تمامًا يكون فسحة، ومع ذلك، في حاجة كانت شداني ليه، يمكن القصة اللي “مازن” كان عمال يحكيها واللي الله أعلم كانت حقيقية ولا تأليف…

“مازن” كمل:

-وعشان كده، لما “مؤنس” اتقدملها واتجوزته، بعد فترة حست إنها اتنازلت وخسرت كتير.

=اتنازلت؟ كمان؟

-اه، أومال إيه؟ يا باشا، قصدي يا “حكيم” زي ما قلتلك الناس كانت بتيجي مخصوص من محافظات تانية تتفرج عليها، دي كانت ولا بديعة مصابني، يمكن لو كملت كانت عدتها في الشهرة، والفلوس اللي كانت بتجيلها من التايترو نفسه ومن النقطة بتاعة الجمهور، ياه، دي كانت عايشة عيشة الملوك، و”مؤنس” كان…شخصية هادية وخجولة جدًا، راح مع واحد صاحبه مرة التياترو ووقع في حبها من أول نظرة، وهي بتتمايل، وهي بتبتسم، وهي بتوزع نظراتها اللي فيها مزيج من الجرأة والبراءة بين الجمهور، وهي من شدة ذكائها أخدت بالها من الإعجاب في عنيه، وعينها اتثبتت عليه ، بصتله أكتر من كل الجمهور ولو بلحظات قليلة، ودول كانوا كافيين يدوبوه، ما هو كان غلبان الراجل وملوش في النسوان، ولا بيكلم حد ولا بيروح كده ولا كده، من شغله لبيته لسفرياته وبس…

=معلش يا “مازن” هقاطعك، بس هو ليه محدش بنى جنب البيت؟

تابع الفصل الثاني

اقرأ هنا: قصة غرفة الدردشة لياسمين رحمي كاملة

1 2 3 4الصفحة التالية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

من فضلك قم بتعطيل حاجب الإعلانات لتستطيع تصفح الموقع