روايات آية محمد رفعت

رواية الأربعيني الأعزب كاملة للكاتبة آية محمد رفعت

رواية الأربعيني الأعزب أحدث روايات الكاتبة والروائية آية محمد رفعت نقدم في هذا المقال هذه الرواية القصيرة كاملة مكونة من 15 فصل عبر موقع بنك الكلمات.

رواية الأربعيني الأعزب كاملة للكاتبة آية محمد رفعت
رواية الأربعيني الأعزب كاملة للكاتبة آية محمد رفعت

رواية الأربعيني الأعزب الفصل الأول

مع إشراقة هذا الصباح بداية، للخريف المشرق التي تنتظره تلك الأشجار العملاقة بفارغ الصبر، لتتخلص من ورقاتها البائسة كالمرء التعيس الذي يتخلص من أحزان قلبه الغائمة، مثل حال صاحب ذلك القصر العريق، الأربعيني المرغوب من أغلب النساء لما يملكه من ثروةٍ كد بها حتى وصل لعمره هذا، لا يعلمون بأنه يعيش حياة عسكرية، بقوانينٍ وضعها لقصره، فيتحكم بقواعده بحزمٍ وصرامة، يحاول من خلفهما أن يخبئ قلبه من حرقةٍ لا يقو عاشقاً على تحملها.

تسللت خيوط الشمس من خلف الستار الداكن لتنير غرفته ذات الطلاء الأسود ، ليكسر صمتها المخيف صوت رنين المنبه المعتاد سماعه بالنسبةٍ إليه، فرفع يديه ليوقف رنينه المزعج، ثم أزاح غطاء الفراش لينهض عن سريره الوثير، ومن ثم إتجه لحمامه الخاص، فوقف مقابل مرآته ليزيل شعر لحيته الزائد، ومن ثم صفف شعره الأسود الذي يكسوه بعض الخصلات البيضاء التي زادت من وسامة وجهه القمحي، وعينيه البنية التي كانت تتوهج بتحدٍ سافر لضوء الشمس المذهب، فكانت تحاوط حدقتيه البنية خط خفيف من العسل المسكوب،  انتهى”عاصي”مما يفعله ثم خرج ليختار إحدى بذلاته الداكنة المعتادة بالنسبةٍ إليه، ثم هبط ليترأس سفرته الكبيرة بمفرده، لم يشعر يوماً بمللٍ يهاجمه، وهو يعيش بمثل ذلك القصر بمفرده لأعوامٍ، في عزلةٍ إختارها هو لذاته، إنتهى من تناول طعامه في تمام الثامنة والنصف كالمعتاد اليه ثم إحتسى فنجان قهوته بالتاسعةٍ الا ربع مثلما إعتاد، ليغادر قصره في التاسعةٍ متجهاً إلى شركته،وما أن وصل السائق لمحل عمله، حتى هبط “عاصي” من سيارته ذات الطراز القديم ليتجه لمكتبه، فهرع إليه السكرتير الخاص به وهو يفتح مفكرته الصغيرة ويخبره بمواعيده الهامة:

_صباح الخير يا فندم، عند حضرتك إجتماع مهم النهاردة بعد ساعتين مع السيد “قاسم خلدون” .

أومأ بخفة برأسه وهو يشير له بحزمٍ:

_خلينا منضيعش وقت، هاتلي الملفات المهمة على مكتبي.

أجابه على الفور:

_حالاً هجبهم لحضرتك.

وكاد بالمغادرة ، ولكنه توقف فور سماعه سؤال سيده:

_”غيث” وصل ولا لسه؟

إستدار تجاهه ثم أجابه:

_ وصل مكتبه من شوية ، تحب أبلغه بحاجة؟

هز رأسه وهو يكمل طريقه لمكتبه:

_لا، روح أنت إعمل اللي قولتلك عليه.

إنصاع إليه ثم أسرع لمكتبه ليختار له الملفات الهامة قبل أن يغادر الشركة.

**

العينين أحياناً تعكس ما بالقلبٍ، ربما تنم عن وجعٍ متعلق بماضٍ ترك أثره مع تلك الأيام التي نختبرها، وربما مازال يلاحق مستقبلك المرهون بتلك اللحظة التي إندث بها الألم ليترك أثراً لن يمحى بتلك البساطة، شرفة عينيه المنطفأة فصحت عما يحبسه خلف رومادية عينيه الداكنة، يحمل أعباء عالم بأكمله على كتفيه، فإنطفئت معالم وجهه الجذاب،ليصبح بلا روح ولا حياة!   من الصعب تصديق أن من يقف أمامك شاباً لا يتعدى عمره السادسة والعشرون عاماً، وكأن أحزانه أضافتله عمراً فوق عمره، إستقام بحركةٍ جسده المائل على مقعده المريح،فور سماعه دقات متتالية على باب غرفة مكتبه، فردد بعمليةٍ باحتة:

_إدخل.

إنفتح باب الغرفة ليظهر “عاصي” من أمامه بقوامه الممشق، فقطع المسافة التي تفصله بينه وبين المقعد المقابل إليه، ليجلس بصمتٍ تام دام لأكثر من خمس دقائق، فإرتبك من يجلس أمامه بصورةٍ ملحوظة، حتى أنه فتح حاسوبه وألهى نفسه بتفحصه، ثم قال بصوتٍ حاول إخمد أوجاعه خلفه نبرته الثابتة:

_كنت لسه هعدي عليك، عشان أقولك أن العملا بتوع ألمانيا كلموني النهاردة وآآ..

قطع “عاصي” حديثه، وكأنه يقطع عليه حجج تهربه من الحديث المفترض عليهما الحديث به، فقال:

_ هتهرب لحد أمته من الإجابة على أسئلتي يا غيث!

ترك ما يحمله عن يديه، ثم زفر وهو يجيبه بضيقٍ:

_لحد ما تقدر تستوعب إن اللي بيني وبينها خلاص إنتهى، ومستحيل نرجع زي الأول.

تعمق بنظراته تجاهه، وكأنه يحاول إستكشاف حقيقة الأمر، فتهرب الأخير من هذا اللقاء ربما لأنه ليس مستعداً لتلك المواجهة التي ستفضح حبها الذي يحاول التخلص منه بشتى الطرق، فسحب نفساً مطولاً قبل أن يخرج ما به من ألمٍ يتعمق بنفسه:

_”عائشة” نهت كل شيء كان جميل بينا يا “عاصي”، فالطلاق هو حلنا الوحيد.

انعقد حاجبيه بضيقٍ من إصراره على الطلاق، وكأنه أمراً سلسل بالنسبةٍ إليه، فقال بإنفعالٍ:

_أنا مش فاهم أنت إزاي عندك القدرة إنك تتكلم عن الطلاق بالبساطة دي ومراتك حامل، وكل ده ليه يعني عشان حصل مشادة في الكلام بينها وبين والدتك!

نهض” غيث” عن مقعده، ليرد عليه بعصبيةٍ كبتت بداخله كثيراً وحان وقتها:

_أنت مشوفتهاش كانت بتتكلم معاها إزاي، كان فاضل إنها تمد إيدها عليها لولا أنا اللي دخلت في الوقت المناسب.

ثم إستطرد بعتابٍ قاسي يحمله تجاهه:

_وبعدين أنا شايفك بتدافع عنها وكأن الست اللي إتهانت دي متبقاش خالتك!

أجابه بهدوءٍ:

_أنا مش بدافع عنها ولا واقف في صفها يا “غيث”، أنا عايزك على الأقل تحاول تسمعها، وتبطل تبقى مندفع وعدواني بالطريقة دي.

إرتسمت على وجهه إبتسامة شبه ساخرة:

_أنا مش طايق أشوف وشها عشان أسمعها من الأساس!

ثم عاد ليجذب حاسوبه ليتابع عمله من جديدٍ، فلم يستسلم”عاصي” وقال:

_أنا حزين عليك، صدقيني هيجي الوقت اللي هتندم فيه على اللي بتعمله ده.

رفع عينيه عن حاسوبه ليرد عليه بألمٍ:

_أنا لو حسيت بالندم فده لإني مسمعتش كلام والدتي من البداية وسمحت لواحدة عاشت عمرها كله في ملجأ إنها تدخل حياتي.

هز رأسه وهو يردد بإستسلامٍ:

_النقاش معاك طريقه ملوش رجوع.

وتركه وكاد بالمغادرةٍ فإستدار ليخبره على مضضٍ:

_متنساش المعاد اللي بينا وبين “قاسم خلدون”.

وتركه وغادر دون أن يستدير خلفه مجدداً، يعلم بأنه يحترق بعشقها، ومع ذلك يرفض أن يمنحها فرصة واحدة، فرصة يستمع بها إليها، ليته يمتلك تلك الفرصة لتعود معشوقته من الموت لأحضانه التي باتت مهجورة من دونها!

**

إتجه “عاصي سويلم” بكامل هيبته لمكتبه الخاص،  فوضع حقيبته المصنوعة من الجلد الأسود على المكتب ومن ثم ألقى بثقل جسده الرياضي على مقعده وعينيه تبحران بهيامٍ بتلك الصورة الصغيرة المعلقة على طرف مكتبه الخاص، لم تكن مجرد صورة عادية بل سجنه الذي يتسع به عاماً بعد الأخر حتى بات يعتاد ظلامه القاسي، قرب “عاصي” الصورة إليه وعينيه البنية تتعلق بتفاصيل وجهها الذي يحفظه عن قلبٍ هام بها لأعوامٍ، أدمعت عينيه وهو يدفنها بصدره بشوقٍ يقتله رويداً رويداً، يتمنى إن مازالت لجواره تشاركه عشقه القاتل بين أضلاعه، ولكنها أمنية من المستحيل تحقيقها، نعم غادرت  تاركة عذاب يبتلعه يوماً عن يوم حتى نقم رغبة الإقتراب من أي إمرأة سواها، لذا أصبح رجل الاعمال الاعزب المرغوب من الفتيات، والاغلب يظنون بأنه يطمح بالمزيد من الثروة والمال لذا استكفى بوحدته ليحقق طموحاته الصاعدة،  لا يعلم أحداً بانه فقد قلبه مع من رحلت من ذلك العالم، فتح عينيه على مهلٍ وهو يهمس لصورتها بابتسامةٍ يجاهد لرسمها:

_صباح الخير يا عمري،النهاردة شايف إبتسامتك جميلة وكأنك حاسة إن النهاردة عيد ميلادي الأربعين!

وتمعن بالتطلع لملامحها الرقيقة ثم عاد ليستطرد بحزنٍ:

_النهاردة كملت أربعين سنة، وبالتحديد تمت عشر سنين من غيرك.

لم يشعر بتلك الدمعة الخائنة التي انسدلت على وجهه، فأخرج ما يضيق بصدره:

_عشر سنين وإسبوعين وتلاث ساعات تقريباً، العمر بيعدي ببطء وأنا بعد الأيام عشان ربنا يجمعني بيكِ يا نور عيوني.

واستكمل بصوتٍ مختنق بالدموعٍ :

_أحياناً بسأل نفسي لو مكنش قتل النفس محرم كنت هعمل أيه؟  ، يمكن ذكرياتك هي اللي بتديني القوة عشان أبدأ من جديد.

ومرر اصابعه على شفتيها قائلاً:

_وحشتيني،كل ثانية بتعدي وأنتي بعيدة فيها عني قلبي بيتجلد من الوحدة، بس اللي مصبرني إني حاسس إن لقائي بيكِ قرب يا روح قلبي.

وترك الصورة عن يديه ثم ارتدى نظارته الطبية ليبدأ عمله الذي إنتهى بعدما أنهى إجتماعه الهام بموظفين شركته، ومن ثم إتجه لسيارته ليعود للقصر حتى يبدل ثيابه لاجل موعده المسائي، فما أن صعد “عاصي” لسيارته حتى أخرج هاتفه الذي دق للمرة الثالثة، فابتسم حينما رأى اسم رفيق دربه وزوج اخته الوحيدة، فما أن فتح الهاتف حتى إستمع لصوته المتعصب:

_أنا عايز أعرف أنت بتشيل تليفونات ليه وأنت في الأساس بتتجاهل أي مكالمات تجيلك؟

ابتسامة ماكرة زينت وجهه الجذاب، ومن ثم اتبعها قوله الخبيث:

_ أنت بتبالغ صح! أنا عارف إنك كلمت  “مصطفى” السكرتير وقالك أد أيه مشغول يبقى لزمتها أيه اللف والدوران ده!

أتاه رده اللازع:

_أيوه طبعاً كلمته عشان أساله عنك، ده أنا بقيت بكلمه أكتر ما بكلم مراتي، مهو صاحبي مغرور ومش مهتم بيا ولا بمكالماتي المهمة.

إحتضن مقدمة أنفه بيديه وهو يجاهد الصداع الذي سيتسبب له، لذا قال بصرامةٍ:

_قولي اللي عندك يا “عمر” عشان نخلص من محاضراتك..

تنحنح وهو يردد بمرحٍ:

_ممكن أكون بالغت شوية بس ميهمنيش، المهم أختك عايزة تفاجئك في عيد ميلادك وأنت ولا كأني قولتلك حاجة.

ابتسم ساخراً:

_أنا شوفتك فين قبل كده!

ثم استطرد بمللٍ:

_هرتب نفسي الأول وبعدين نشوف.

وأغلق الهاتف وهو يردد ساخراً:

_غبي!

ثم جذب حاسوبه ليلتهي به قليلاً،  فإبتسم حينما وجد صورتها تستحوذ على حاسوبه الخاص كما تستحوذ عليه هو شخصياً، فغامت عينيه بذكراها التي لم يمل منها يوماً.

**

_قولي أنت أمته هتفضالي!، أنت دايماً مشغول يا “عاصي”.

ابتسم وهو يخبرها بحنانٍ:

_إزاي أنشغل عنك وأنتِ على طول بتقتحمي أوضة الإجتماع والغضب مسيطر على عنيكِ لدرجة أن الموظفين أخدوا على كده فمبقاش حد فيهم بيقفل الباب!

لوت شفتيها وهي تخبره بسخطٍ:

_أحسن خليهم يتعودوا، مهما هيقسموني فيك بعد الجواز..

تعالت ضحكاته الرجولية وهو يشير لها بمكرٍ:

_ثواني بس، أنا شامم ريحة حريق جاية من عندك، خلينا نروح للدكتور ونطمن إنك بخير.

جزت على أسنانها غضباً ومن ثم جذبت أوراق الملفات التي تملأ مكتبه لتلقيها بوجهه وهي تردد بعصبيةٍ:

_النار دي هتحرقك إنت يا”عاصي”.

حاول حماية وجهه من الأوراق المتطايرة، فجذبها لأحضانه وهو يردد بخبثٍ:

_هتحرقنا مع بعض يا عمري.

عاد من شروده حينما تساءل السائق بإستغرابٍ لبقائه المطول بالسيارةٍ:

_وصلنا يا باشا، ولا حضرتك تحب نروح مكان تاني!

أفاق من دوامة ماضيه والبسمة الفاترة مازالت مرسومة على وجهه،  فهبط ليتجه لغرفته، ومن ثم إختار بذلة سوداء أنيقة، وإغتسل ليستعد للقاء “قاسم خلدون” رجل الاعمال الشهير، فتلك الصفقة تعد من أهم ما ستحققه شركات “عاصي سويلم” وخاصة بالشراكة معه، وقف أمام مرآته المطولة ليعدل من جرفاته الرمادية، ثم نثر البرفنيوم الخاص به على بذلته، ولحيته النابتة، ليلقي نظرة أخيرة على ذاته قبل أن يتجه للاسفل، فجلس ينتظر ابن خالته، زفر “عاصي” وهو يتفحص ساعة يديه بضيقٍ، فإتصل به وحينما لم يجد رداً،همس بسخطٍ:

_متأخر ومبيردش كمان عظيم!

وجذب كوب قهوته الذي وُضع من أمامه ليرتشفه على مرتين، عله يكبت غيظه، فمرت أكثر من نصف ساعة ثم إستمع لصوت سيارته،فخرج ليجده يقف من أمامه، هبط الدرج بثباتٍ حتى بات يقف مقابله، فقال بغضبٍ:

_لو مكنتش حابب تيجي كان ممكن تبلغني بده، مش تسبني بستناك لحد دلوقتي وأنت عارف إني مبحبش أتاخر عن مواعيدي.

تحكم “غيث” بإنفعالاته بصعوبةٍ، ثم قال بسكونٍ عجيب:

_أنا معرفش نسيت المعاد إزاي.

لانت معالمه حينما شعر بحالةٍ التخبط التي يختبرها، فصعد بالمقعد الأمامي المجاور له ثم قال:

_طيب يالا عشان منتأخرش أكتر من كده.

إنصاع إليه ثم صعد ليحرك به على الفور  للفندق المنشود، فما أن وصلوا حتى وجدوا “قاسم”  باستقبالهم هو وأبيه وعمه، والجميع يرحب به بهيبةٍ وقار، ليشير له “قاسم” على تلك الطاولة الضخمة التي أعدت خصيصاً إليه،  ليجذب الجرسون أحد المقاعد التي إحتلها بهيبته الوقورة، ولجواره جلس “غيث”، فلس الاب والعم و”قاسم” مقابله ليبدأ بالحديث:

_مبروك علينا شراكة زي شراكتك يا عاصي باشا.

إكتفى برسم إبتسامه صغيرة له،  فإستكمل” قاسم” قائلاً:

_عشان كده هستغل المناسبة المهمة دي، ويبقى الإحتفال إحتفالين بخطوبتي أنا و”لوجين”..ولا أيه رأيك يا عمي؟

بدأت الصدمة جلية على وجه عم “قاسم”، فإبتلع ريقه بصعوبةٍ ملحوظة،  ومع ذلك حاول السيطرة على إنفعالاته وهو يجيبه:

_زي ما تحب يا إبني… هروح أبلغ “لوجين” عشان تستعد.

شعر “عاصي” بأن هناك خطباً ما بين العم وابن أخيه، ولكن لم يعنيه الأمر كثيراً، فالمهم بالنسبة إليه أنه تمم الصفقة الهامة، فأراد أن يغادر لذا إنحنى برأسه تجاه “غيث” ثم همس إليه:

_العقود كلها تمام، ملهاش لزمة قعدتنا هنا.

أجابه “غيث” وهو يتفحص من جواره حتى لا يستمع إليهما أحداً:

_شكلها مش هيبقى ظريف لو مشينا دلوقتي، خصوصاً إنه قالك بنفسه!

ثم استطرد بعد لحظات إستكشف فيها ردة فعله:

_خلينا شوية ولما يعلن خطوبته نبقى نمشي على طول.

هز رأسه بإقتناعٍ، ثم جلس باستقامةٍ تليق به، فنهض “غيث” عن مقعده ليشير إليه وهو يهم بالإبتعاد:

_ثواني وراجع.

مرت دقائق بسيطة إنتاب الحفل حالة من الهرجٍ والمرج، الجميع يركض هنا وهناك، وعبارة واحدة تتردد على الألسنة”اختفت العروس! “.

كان الأمر غريباً بعض الشيء وبالأخص برود “قاسم” الذي بدى للجميع إعتياده على هروبها الدائم من خطبته التي ألغيت أكثر من مرة، فرفع “عاصي” كوب العصير ليرتشف منه، لعل ريقه الجاف يزداد رطوبة قليلاً، فتوقف بحلقه في صدمةٍ مما شعر به، فإتجهت عينيه لاسفل الطاولة حينما شعر بيد تشدد على بنطاله، فوزع نظراته حوله بتفحصٍ، وما أن تأكد بإنشغال الجميع بالبحث عن العروس، حتى رفع بمقدمة حذائه غطاء الطاولة الأبيض الطويل، ليتفاجئ بمن تختبئ أسفلها!، وجد فتاة تجلس أسفل طاولته، عينيها تشبه الليل الساكن في ليلة سمائها صافية، خصلات شعرها البنية القصير يلتف حول رأسها على شكل دائري فيمنحها مظهر بريء ، وبالرغم من جمال تلك الحورية ذات الجمال الرقيق الا انه لم يرمش له جفن، وكأنه مسحور تجاه إمرأة أخرى، فرفع عينيه ليتابع المارة بنظرةٍ متفحصة قبل أن يعود لسؤالها:

_أنتِ مين؟  وبتعملي أيه هنا؟

أجابته بصوتٍ هامس، وكأنها تخشى أن يستمع إليها أحداً:

_زي ما أنت شايف مستخبية تحت التربيزة عشان “قاسم” الغبي ميشوفنيش، أما إجابة سؤالك الأول مقتصرة على الأجابة الأولى أنا العروسة اللي قالبين عليها الدنيا.

إبتسم رغماً عنه على جملتها الأولى وسبها لابن عمها دون خوفاً، فعاد ليسألها من جديدٍ:

_وإشمعنا تربيزتي أنا بالتحديد؟

أجابته بإبتسامةٍ واسعة رسمتها بلباقةٍ، إستطاع أن يلمسها “عاصي” بحديثها:

_مش عارفة ، يمكن لإن شكلك راجل شهم، وهستساعدني بالهروب من هنا، يعني مش من المنصف بالنسبالك إن بنت تتجوز راجل مبتحبوش غضب عنها وقلبها ملك لشخص تاني.

سألها ساخراً:

_والشخص ده فين!

رفعت كتفيها وهي تجيبه بطفوليةٍ:

_ مش عارفة  المفروض إنه يكون هنا عشان نهرب، ولحد ما ده يحصل المفروض متتخلاش عني.. أرجوك ساعدني بالخروج من هنا.

تقوس جبينه بحيرةٍ مما يستمع إليه،  فلم يكن ينقصه سوى تلك الكارثة، فقال بتأففٍ:

_وهعملها إزاي دي!

أجابته على الفور، وكأنها تعرف السؤال من قبل أن يطرحه:

_كل اللي عايزاه منك جاكت بدلتك الجميلة دي، وبعدها هطلع معاك على برة وكأني كنت جاية معاك من البداية.

جز على شفتيه السفلية بأسنانه وهو يهمس بسخطٍ:

_بتهزري صح!   أنتي عارفة أنا مين؟

ضمت شفتيها معاً بحيرةٍ، فأعاد غطاء الطاولة سريعاً حينما عاد “غيث” لمقعده،فضيق عينيه بإستغرابٍ حينما وجده يتطلع إليه بملامحٍ جامدة، فتساءل بدهشةٍ:

_في أيه؟   هي الخطوبة لسه مبدأتش!

هز رأسه نافياً وهو يخبره بسخريةٍ:

_هتبدأ إزاي والعروسة هربت.

صعق “غيث” مما إستمع إليه، فردد بذهولٍ:

_هربت على فين!

أشار بعينيه تجاه قدميه بإستهزاءٍ، فانعقدت معالمه بدهشةٍ، فرفع غطاء الطاولة ليكسو وجهه صدمةٍ وخاصة حينما ترجته “لوجين” بألا يصدر أي ردة فعل قد تدلهم على مكانها، فأعاد الغطاء مرة أخرى،ثم رسم إبتسامة مصطنعة حتى لا يلفت إنتباه أحداً إليه، كبت “عاصي” ضحكاته بصعوبةٍ ثم قال:

_ابتسامتك الجميلة دي اللي هتفضحنا.

تجاهل سخريته اللازعة،ثم سأله بجديةٍ:

_ناوي تعمل أيه!

رفع كتفيه باستسلامٍ للمصير الذي ألقاها في طريقه، فقال الأخير بإنزعاجٍ:

_لا أوعى تعملها يا “عاصي”، أنت متعرفش”قاسم خلدون” ممكن يعمل أيه!

أدلت برأسها من خلف الغطاء وهي تنهره بشدةٍ:

_ممكن متتدخلش في موضوعنا يا حضرت، الإستاذ هو اللي هيساعدني مش أنت.

صعق “غيث” من حدة لسانها السليط،  أما “عاصي” فإبتسم وهو يردد ساخراً:

_وأنتي قررتي بالنيابة عني!

هزت رأسها عدة مرات، فدفع “غيث” رأسها للأسفل حينما دنا منه “قاسم”، الذي أشار لهما بحرجٍ:

_”عاصي” باشا، أنا بعتذر من حضرتك على اللي حصل ده، أنا عارف إن في عقود متوقعتش لسه بس حضرتك بنفسك شوفت اللي حصل.

ربت على كتفيه بهدوءٍ ثم قال:

_بعدين هنتكلم المهم دلوقتي تدور على بنت عمك الأول.

أجابه باستياءٍ حينما تذكرها:

_ البنت دي هتجنني أكيد، كل ما بأعلن عن خطوبتنا بتختفي زي الشبح!

كبت “عاصي” ضحكاته وهو يرأها تدلي برأسها من أسفل الطاولة وترمقه بنظراتٍ قاتلة، فسأله “غيث” بإهتمامٍ :

_هي هربت قبل كده؟

رد عليه بضيقٍ:

_من كتر ما الهروب بقى عادة عندها مبقتش عارف عدد المرات.

ابتسم “عاصي” وهو يخبره :

_طيب ليه مش بتدور على ست غيرها تقدرك وتكون عارفة قيمتك!

أجابه بابتسامةٍ نبع بها العشق المجنون:

_ياريت كنت أقدر، أنا محبتش ولا هحب غيرها.

ضحك “عاصي” بصوته كله وهو يراها تحمل سكيناً التقطته من أعلى الطاولة وتشير به على عنقها وهي تردد بصوتٍ استمع له جيداً:

_الموت رحمة ليا منك يا غبي.

تعجب من ضحكه الغير مبرر بالمرةٍ، فاستوعب الأخير الأمر، وسرعان ما إستعاد ثباته سريعاً وبملامحٍ جادة قال:

_بتمنى أنك تلاقيها في أقرب وقت ويمكن بعد كده تكتسب خبرة في التعامل مع هروبها ده.

ودعه وهو يهم بالخروج للبحث عنها، وما أن غادر “قاسم”،  حتى عاد” عاصي” ليجلس محله من جديدٍ، وهو يهمس بصوتٍ منخفض لغيث:

_راح يدور على المشاغبة اللي مطلعة عينه وهي مستخبية زي القطة تحت التربيزة!

أخرجت رأسها إليه وهي تشير له باستعطافٍ:

_الفرصة دلوقتي مناسبة، هات بقا جاكيتك.

إحتدت نظراته تجاهها، فقالت بحزنٍ مصطنع:

_ساعدني ومش هوريك وشي تاني والله،  خرجني بس من هنا وأنا هتصرف.

منحه “غيث” نظرة تحمل معاني الاستغاثة والتوسل بالا يرتكب هذا الفعل المتهور، فخذله بنظراته، فلم يعتاد يوماً التخلي عن أحداً يطالبه بالمساعدة، لذا رضخ لها وخلع جاكيته ليكوره بغيظٍ وهو يقدمه لها، فلم يعتاد ابداً على خلع جاكيت بذلته بمكانٍ هام كذلك، لا يعلم بأن تلك المشاغبة جعلته يجتاز فقط أول قوانينه أما القادم فسيجعله في حالةٍ عدم استيعاب، إرتدت “لوجين” الجاكيت،  فإبتعد عنهما “غيث” ليراقب الطريق، بينما تنحى “عاصي” بمقعده للخلف، ليشير لها:

_ إخرجي يالا.

خرجت من أسفل الطاولة لتقف جواره ومن ثم تعلقت بيديه وخطاهما السريع يدنو من سيارة “غيث” المصفوفة بالخارج، فصعدت جواره بالخلف، فقاد “غيث” سيارته مسرعاً بالإبتعاد عن الحفل، ومازال لا يستوعب كيف حدث ذلك؟  وماذا سيحدث لو كشف “قاسم” ما حدث هنا!

فلم يجده الوقت المناسب للتفكير، لذا انطلق على الفور، فما أن إبتعدت سيارته عن الفندق بمسافةٍ معقولة، حتى إنطلق صوته الصارم يؤمره:

_وقف العربية يا “غيث”..

إنصاع إليه وتوقف بالسيارة، فإستدار تجاهها ليشير لها ببرودٍ :

_بقيتي في أمان،  يالا إنزلي.

لعقت شفتيها بارتباكٍ وهي تسأله بصدمةٍ:

_أنت هتسبني هنا لوحدي!

استدار تجاهها ثم قال بسخريةٍ:

_وأيه اللي المفروض أعمله تاني؟

رفعت كتفيها ببراءة مصطنعة:

_مش عارفة.

ثم قالت:

_بس على الأقل اعطيني تليفونك إتصل عليه عشان يجي.

جز على اسنانه بعصبيةٍ بالغة،  على تلك الكارثة التي بلى نفسه بها،  فجذب هاتفه من جيب بنطاله ليضعه أمامها بضيقٍ:

_إتفضلي..

تناولته منه وهي تردد بابتسامةٍ عابثة:

_شكراً يا آ…

ثم تساءلت باستغرابٍ:

_أنت إسمك أيه؟

قال بسئمٍ:

_مش مهم.

رددت بغضبٍ:

_أنت قليل الذوق بس أنا أفضل منك..

ثم مدت له يدها وهي تقول بابتسامةٍ سحرته:

_أنا “لوجين”.

ابتسم وهو يردد ساخراً:

_متقلقيش الحفلة كلها عرفت إسم العروسة الهربانة..

كبتت غضبها غيظاً، فكادت بأن تتحدث مجدداً فقطعها حينما ألقى هاتفه بوجهها وهي يشير لها:

_إتصلي بيه وخلصيني، أنا عندي معاد مهم.

جذبت الهاتف منه ثم  بإرتباكٍ، فحاولت الاتصال برقمٍ كتبته بعشوائيةٍ وهي تراقب انفعالات وجهه ثم قالت بايتسامة واسعة حينما استمعت لصوت المتصل:

_أهلاً،  أنت “وسيم”؟

انعقدت تعابيرها بغضبٍ وهي تستطرد:

_إنت وقح أوي على فكرة، أنا مش بعاكسك أنا بسألك عن إسمك بس.

وانتظرت لسماع الطرف الاخر ثم قالت بتعصبٍ شديد:

_خلاص إقفل التليفون والا هقطع رقبتك يا بجح.

وأغلقت الهاتف ثم دفعته تجاه” عاصي” الذي يتطلع لها هو و”غيث” بصدمةٍ، فقالت وهي تتطلع له بخجلٍ:

_في الحقيقة يعني أنا معنديش حبيب أهرب معاه،  أنا قولتلك كده عشان تهربني من المكان ده..

احتدت معالمه بغضبٍ، بينما جحظت عين “غيث” في صدمةٍ حقيقية، وهو يرى تلك الفتاة القصيرة تتلاعب “بعاصي سويلم”، الذي لم يجرأ أحداً على فعلها من قبل، فراقب ما يحدث بالخلف عبر المرآة بإهتمامٍ، ليجده يشير على الباب وهو يردد بصوتٍ حاد:

_إنزلي من العربية حالاً.

تطلعت ليديه المشيرة على الخارج ثم قالت بحزنٍ مصطنع:

_بتتخلى عني بالسهولة دي، كنت فاكراك رجل شهم وهتساعد بنت بريئة لجأت ليك بس أنت في النهاية طلعت زي”قاسم” الغبي، متفرقش عنه كتير.

ثم تركته وهبطت من السيارة لتقف جانباً وهي تتصنع البكاء، مما جعله يلكم نافذة السيارة وهو يردد بضيقٍ شديد:

_هو يوم باين من أوله.

وفتح باب السيارة مجدداً، ثم هبط ليقترب منها قائلاً باستسلامٍ:

_طيب خلاص هساعدك، بس مش هقدر أسيبك في بيتي غير تلات أيام بس تكوني دبرتي فيهم أمورك..

ورفع أصبعيه ليشير لها بتحذيرٍ حينما رأى الفرحة تتسلل إليها:

_ومتحلميش بأكتر من كده.

صفقت بيدها كالطفلة الصغيرة وهي تخبره بفرحةٍ:

_حلوين هكون دبرت أموري..

أومأ برأسه ثم قال بهدوءٍ وهو يتحاشى نظرات “غيث” المندهشة:

_إركبي..

صعدت “لوجين” للسيارة بإبتسامةٍ نصر، فوزع نظراته بينهما مجدداً ليجد “عاصي” يشير إليه:

_إطلع يا “غيث”، قبل ما حد يأخد باله من البلوة اللي معانا.

كتم غيظه تجاه ما يحدث ثم سأله بحدةٍ:

_على فين!

حك مقدمة رأسه بضيقٍ، حينما تناسى أمر”عمر” وشقيقته، لذا قال على مضضٍ:

_إطلع على بيت “إيمان”.

لم يناقشه فيما قال،وتحرك به تجاه وجهته،لتتوقف السيارة أسفل أحد البنايات الراقية،  المطعم لونها بالأبيض والرمادي، فقالت “لوجين” وهي تتطلع لاعلى البناية باعجابٍ:

_إنت ساكن هنا!

لم يجيبها، بل قال بصرامةٍ:

_لسه محتاجة الجاكت في حاجة!

فهمت مغزى حديثه، فخلعت جاكيته ثم منحته إياه، فإرتداه على الفور، لينحني تجاه نافذة السيارة ثم قال بصوتٍ منخفض:

_متفكرش كتير كان لازم نساعدها.

حدجه “غيث” بنظرةٍ ساخرة ثم قال:

_ساعدها وإخسر صفقات بالملايين.

إبتسم وهو يجيبه بثقةٍ:

_إحنا اللي مكسب ليهم مش هما.

ثم أشار له بيديه:

_أشوفك بكره،  تصبح على خير.

وإنتصب بوقفته ليغادر “غيث” على الفور، وتحرك هو ليصعد الدرج متجهاً للطابق العلوي، فصعدت “لوجين”، دق الجرس مرتين متتاليتين، ثم وقف ينتظر إجابة أحداهما فقالت بإستغرابٍ:

_أنت مش معاك مفتاح ولا أيه؟

لم يجيبها وظل صامداً كشموخ الجبل،حتى فتح رفيقه باب المنزل ثم قال بصوتٍ مرتفع حتى تسمعه زوجته:

_”عاصي” أنت إتاخرت كدا ليـــــه!

أنا مش مكلمك وقايلك تعالى ندردش شوية مع بعض، جايلي نص الليل!

لم يجيبه بل دفعه بالقوةٍ للداخل، حتى يسمح لمن تقف خلفه بالدلوف للداخل، فوقفت “عمر”  وشقيقته يتطلعون لمن تقف خلفه بصدمةٍ، وبأنٍ واحد قالوا:

_مين دي!

تابع معنا

1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15الصفحة التالية

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

من فضلك قم بتعطيل حاجب الإعلانات لتستطيع تصفح الموقع