 
						الفصل الثاني من قصة الدكتور والراقصة
-يعني…أنت عارف بقى، القصص اللي بتطلع على البيوت القديمة، خصوصًا اللي ليها تاريخ كده مش تمام..
=يعني إيه برضه؟
سمعت صوت جنبي، حاجة طارت فوق وعملت دوشة جامدة، غراب!
غراب طار من جنبي على السقف العالي، فزعني، قلبي وقع في رجلي….
“مازن” كمل:
-بيقولوا يعني، إن البيت مسكون، وإن أي حد معدي من جنبه مش بيسلم منه..
=معدي من جنبه؟ داحنا جواه..
-ما هو كلام يا “حكيم”، تصدق أنت الحاجات دي؟
=واللي بيعدي ده مش بيسلم من البيت إزاي بقى؟
-أهو، بيقولوا مثلًا إن الواحد بيسمع خطوات وراه، بيبص، مش بيلاقي حاجة، لكن صوت الخطوات بيكمل، وكمان الخطوات بتسرع وبتجري وراه! بيلاقي نفسه بيجري من كيان مجهول، يفضل يجري ويجري كتير لحد ما أخيرًا يبطل يسمع صوت الخطوات، وشوية حكايات تانية كده…
=طب كمل، “مؤنس” حب “عنايات” من أول نظرة…
-اه، ومن ليلتها بقى يتردد لوحده على التياترو، عامل زي الجندي المخلص الملتزم، بيروح على الجبهة من غير أمر مباشر، لوحده كده، ويفضل مستني…
=مستني إيه؟
-مستني الرضا! تخيل، سنة كاملة، مسعاش يكلمها ولا مرة، جمهور صامت هيمان في عشقها، لحد ما جت هي في ليلة بعد ما نمرتها خلصت وغيرت هدومها راحت عليه وقالتله:
“جرى إيه ياسمك إيه، هو أنت بتراقبني؟ ولا أنت حكومة؟”
=يا سلام وهو عمل إيه؟
-كان هيغرق في عرقه المسكين، لبخة، عِرق كده واتحرج ومبقاش عارف يرد، وهي تسكت؟ أبدًا فضلت مكملة ودايسة على قضبانه الدايبة وقالت: “أنت إيه حكايتك؟”، هو رد “أنا…أنا معجب”، هي قالت “معجب؟ لأ، أنا مليش في كده، مليش أنا في البطال، إيه معجب دي”.. وقامت سابته ومشيت…
=شغل نساوين ده.
-عفارم عليك، شغل نساوين، هي قرته، ومن أول مرة، راجل غلبان ولبخة وملوش خبرة وكانت عارفة إن إسلوبها ده هيأثر عليه وهيخليه يجيلها لحد رجليها، وحصل، مفيش، تاني ليلة جالها التياترو وعرض عليها الجواز من غير حتى ما يرجع لأهله، وهي وافقت علطول، ما هي كانت سألت عنه وعرفت شغلته وعيلته وثروته…
-برد!
انتبهت ل”مازن” وسألته:
=أنت قلت حاجة؟
رد عليا:
-اه يا “حكيم” ما انا لسه كنت بحكي..
=لأ، مش قصدي، قلت حالًا حاجة، بردان أو كده؟
-بردان إيه، داحنا في شهر 9، الجو حر والرطوبة أجارك الله..
موقفتش عند الموضوع ده، قلتله يكمل…
-فرضت عليه يبنيلها بيت كبير، عشان تضمن تكون أول واحدة تخطي فيه، بتاعها لوحدها، جبتله تصميم في مجلة عندها، تصميم لبيت أوروبي عجبها، طبعًا البيت كلف كتير أوي، كمان بالتفاصيل اللي طلبتها، الديكور، العفش، الأنتيكات، بس هي تأمر وهو يطيع، مكنش عنده إرادة، بضاعة أتلفها الهوى! وبعد ما البيت خلص اتجوزوا علطول، ومفاتش كام شهر و”عنايات” بدأت تحس بالندم والزهق، إيه اللي عملته في نفسها ده؟ بقى تسيب الأضواء والشهرة والعطايا والهدايا والفلوس والمستقبل المفروش بالورد والألماظ وتقعد في سجن مقفول، كل متعتها هي التمشية في الجنينة حوالين البيت والمجلات اللي بيجيبها “مؤنس” وطلته عليها، وفين وفين لما يفضى يخرجها للمسرح ولا التياترو، لا وإيه كمان “مؤنس”، هو نفسه، بالنسبة لها كان ممل، شخص عادي، لأ، أقل حتى من العادي، كل هوايته المرواح للمسرح والاستعراضات، وده عشان خاطرها بس، اتهيألها إنه لو لوحده مكنش حتى هيهتم يروح، متعته الحقيقة إنه يتمشى جنب البحر وياكل درة مشوي ويقرا في كتب، ولا ابن نكتة ولا بيفهم النكت، مش فالح غير في شغله، حتى حبه ليها، مش مولع كده…فاهمني؟ مفيش الشغف وحب الأبطال لبعض في الروايات، حب عنتر لعبلة ولا قيس لليلى ولا روميو لجولييت، حبه ليها فاتر كده، صحيح مفيش طلب بتطلبه إلا وينفذه، ولو لبن العصفور زي ما بيقولوا، وكل شهر بيجيبلها فساتين على أجدد موضة، وبيجيب طلبات البيت والأكل الغير مبرر اللي يكفي 20 واحد مش اتنين وطقم خدامين، لكن برضه…مكنتش مكتفية بده، مشكلته كانت بالنسبة لها الفتور، نفسها تشوف فيه روميو، يدوب كده في عشقها دوب…
وتفوت سنة ورا التانية، و”مؤنس” يرجع في ليله من شغله، راجع متأخر الراجل ومنهك، متوقع يلاقي مراته نايمة في سابع نومة، هو اه لقاها نايمة بس مكنتش لوحدها، لقى معاها شاب صغير….
=يا خبر، إيه الست الفاجرة دي؟
-مش عايز أقولك يا “حكيم” الدم بقى للركب، لكن الحقيقة إنه كان دم “مؤنس” مش الواد، الواد أول ما شاف “حكيم” نزل فيه ضرب! وكان إيه طول بعرض وشنبه يقف عليه الصقر….
=إيه يا “مازن” وقفت ليه؟
-لمؤاخذة يعني، عايز الحمام، تعالى نروح قهوة خطوتين من هنا ونرجع تاني..
مكنتش عايز أمشي، معرفش، البيت كان تحفة، مش لاحق أشبع منه، اه سبحان الله رأيي اتغير في الشوية دول، بعد كنت مقبوض منه وشايفه كئيب في الأول، بقيت شايفة قطعة فنية خطيرة، لما ركزت في التفاصيل، في أركانه، الباقي من الأرضية والحيطان والسقف والدفاية، المكان ده اللي كانوا بيجمعوا فيه حطب أو خشب ويولعوه بالنار عشان يتدفوا وبيبقى متوصل بمدخنة طويلة، وكان عندي فضول اشوف الصالونات والأوض، عشان كده قلتله:
=روح أنت يا “مازن”، أنا هستناك هنا.
-معقول يا باشا؟ هتستنى هنا لوحدك؟
=اه، عادي، بدل ما اروح وأجي، إيه، العفريت هياكلني؟
على وشه كانت نظرة قلق استمرت للحظة وبعدين لف ومشي، قال لي إنه مش هيتأخر عليا، دقايق ويرجعلي…
مفضلتش مكاني، سرحت، طلعت الدور التاني وأنا عمال أبص على كل مكان، اتخيل الشخصيات الحقيقية “مؤنس”، و”عنايات” وهم عايشين في البيت…
وصلت لأوضة نوم ضخمة، كإنها شقة لوحدها، أكيد دي كانت أوضتهم، أوضة نومهم الرئيسية مش أوضة ضيوف، الأوضة لسه فيها السراير، سريرين، أكيد “عنايات” هي اللي فرضت عليه الوضع ده بعد فترة من الجواز، ما هي ست جبارة…
اتلفت بسرعة لما سمعت حركة، سألت:
=مين؟
خرجت ببطء من الأوضة، فضلت ماشي في الطرقة الطويلة لحد ما وصلت للسلالم من فوق، لمحت “مازن” قاعد تحت…
كان قاعد على كنبة من الكنب القديم، الكنبة كانت مكسرة ومليانة تراب، مش عارف إزاي كان مستحمل يقعد عليها…
ندهته، مردش عليا، حطيت إيدي على الدرابزين، فضلت واقف مكاني ثواني وبعدين نزلت، الغريب إن “مازن” ملتفتش ليا وهو سامعني نازل…
درجات السلم كانت بتزيق جامد مع كل خطوة بخطيها، صوتها مزعج…
أخيرًا وصلت تحت، مشيت لحد “مازن” اللي كان لسه ثابت مكانه، ملفش ليا….
قعدت جنبه، فضلت باصص ليه، مستنيه يضحك، ما هو محدش يتبصله بالشكل ده وميضحكش، لكن…مضحكش…
إيده كانت ممدودة جنبه، ثابتة، معرفش ليه، بس مديت صوابعي ولمست إيده لقيتها تلج!
سألته:
=أنت تمام؟
أخيرًا عينه طرفت، لف راسه ناحيتي ببطء…قلتله:
=ممكن نكمل الجولة؟
وقمت، مشيت كام خطوة واتكعبلت…موقعتش، رجلي اتحشرت في فراغ في الأرضية بعد ما حته خشبة اتكسرت، طلعت مني صرخة، حسيت بألم، كإن رجلي اتلوت…بصيت لمازن، بستنجد بيه…. ملقتهوش!
سمعت تخبيط…
زعقت:
=ميين؟
-محتاج مساعدة؟
كان صوت راجل برا البيت، مش “مازن”…
قلت:
=أيوه، رجلي…
-استنى.
فتح الباب ودخل، كان لابس بدلة منمقة كده وشيك أوي ونضارة بعدسات صغيرة مدورة، طلع رجلي من الفراغ بإيديه الاتنين، كإنه عارف بيعمل إيه، مسكة إيديه لرجلي والطريقة اللي خرجها بيها وكمان فضل يبص ويضغط على رجلي في كذه حته والحمد لله اتأكد إن معنديش التواء ولا شرخ، كان معاه شنطة مربعة شبه الصندوق، كان سابها على الأرض لما شيك عليا، بعد كده أخدها ومشي…
شكرته وهو ماشي، هز راسه ليا، وبعدها علطول “مازن” ظهر….
=إيه يا عم روحت فين؟
رد عليا:
-معلش يا “حكيم” حسيت إني محتاج قهوة، شربت فنجان عالسريع وجيت.
=أيوه ليه مكنتش بترد عليا لما جيت، وبعدين اختفيت كده فجأة!
سكت، فضل باصص لي ومردش…قلتله:
=مش هتكمل لي القصة؟
-ا…ااه طبعًا، إحنا وصلنا لفين؟
=لحد ما “مؤنس” قفش “عنايات” مع عشيقها، والعشيق رنه علقة معتبرة.
-أيوه صح، بعدها العشيق لم بعضه ومشي، والدكتور عاتب “عنايات” على عملتها وهي ما صدقت، فضلت تزعق فيه وتقول له إنه مش راجل ومش مالي عينها وإنه معيشها في ملل والحياة معاه خنقة، تعرف عمل إيه، وطى راسه، ومشي من قدامها وهو لسه بينزف، راح يغسل مناخيره ووشه من الدم، العلاقة ما بين “عنايات” والشاب استمرت شهور، “مؤنس” كان عارف وعامل مش واخد باله، مهو اتكسر بقى، هي حسسته إنه مش مالي عنيها ومقصر معاها، وكان بالعكس بيحاول يعوض النقص ده وبيدلعها أكتر من الأول وبيصرف عليها مصاريف مهولة.
=إيه العك ده؟ ده اللي اسمه غسيل المخ؟
-زي ما قلت كده، عك، المهم بعد شهور لسبب غير معروف “عنايات” تقرر تقطع علاقتها بالشاب، في الغالب يعني عشان مجرد شاب صايع، لا معاه فلوس ولا هيقدر يشيل بيت، ده مجرد ملاكم، أو عامل نفسه ملاكم، لكن علاقتهم ملهاش مستقبل، ولا عنده وظيفة ولا عيلة مقتدرة ولا أي حاجة، يعني مش ممكن تسيب “مؤنس” عشانه…لكن وببجاحتها احتفظت بصورة ليه حطتها في إطار في وسط البيت جنب الدفاية، عشان تفتكر قد إيه هي لسه حلوة وصغيرة ومرغوبة حتى من الشباب الصغير…
=صحيح بمناسبة الدفاية، افتكرت، في دكتور جه وأنت مش موجود، لما جيت وطلعت تاني من البيت عشان تجيب القهوة…
-دكتور؟
=اه، مانا رجلي اتحشرت في فجوة في الأرضية، هو دخل وساعدني، خرج رجلي وشافها…
مردش عليا، كملت:
=كان متشيك كده زيادة عن اللزوم ومعاه شنطة شبه الصندوق الصغير، وشكرته ومشي علطول، مممشي…
عطلت في الكلمة الأخيرة، وأنا بقول “مشي”، وده عشان افتكرت، الدكتور ممشيش ناحية الباب، ده مشي في البيت نفسه، راح في اتجاه جزء من البيت لسه مستكشفتوش واختفى!
قلتله:
=الله، ده ممشيش من البيت، لسه جوه، معانا هنا، راح فين؟ هو الجزء اللي هناك ده في إيه؟
شاورت بإيدي على الاتجاه اللي مشي فيه.. “مازن” رد:
-المطبخ، وحمام من الحمامات.
=طيب، يالا نشوفه..
قاطعني ومد إيده في طريقي وقال:
تابع الفصل الثاالث

