روايات روز أمين

رواية انا لها شمس روز أمين الجزء الخامس

رواية انا لها شمس الفصل الثالث والأربعون لروز أمين

دقت الساعة الخامسة والنصف صباحًا، بالكاد شق ضوء الصباح ليزيل عتمة الليل الغامق وينثر نور الصباح على الأرض،خرجت من منزلها ترفع قامتها لأعلى بكبرياءٍ بعدما أوفت بعهدها وزُفت إليها البشرة التي انتظرتها منذ أن تلقت صدمة خبر مقـ.ـتل زوجها،يجاورها نجليها حاملين سلاحيهما ليتوجها صوب منزل الحاج محمد ناصف،وقفت أمام المنزل لتدق الباب بقوة وثبات والسعادة تعلو ثغرها، فتحت العاملة الباب لتنطق السيدة أزهار بصوتٍ مرتفع:
-إندهي لي الحاج محمد وإجلال
-البيت كله لسة نايم يا ست أزهار…قالتها العاملة وهي تطالعها باستغراب لتهتف الأخرى بصوتٍ يملؤه الحماس:
-النايم يصحي
لتستدير لنجليها وهي تشير إليهما وتعطي لهما إشارة البدأ:
-زفوا البشارة وعرفوا البلد كلها إن ولاد الحاج هارون خدوا بتاره

إنطلق صوت إطلاق الأعيرة النارية لتفزع تلك التي تجلس فوق تختها في الحجرة التي خصصها لها شقيقها محمد تبكي وتنتحب غير مستوعبة ما حدث لزوجها وأنجالها،قفزت من فوق الفراش وهرولت للخارج كـ جميع سكان المنزل الذين فزعوا من نومهم على إثر صوت الطلقات المتتالية بكثرة،خرج محمد ليجد أزهار تلف عباءة زوجها المغدور حول كتفيها بفخرٍ لتتحدث بنبراتٍ تقفزُ من بينهم السعادة:
-إبعت هات ولاد إعمامك وإنصبوا صوان العزا يا حاج محمد،النهاردة بس ولاد الحاج هارون هيرفعوا راسهم في وسط البلد وياخدوا عزا أبوهم
ضيق بين عينيه لينطق بعدم استيعاب:
-إيه اللي حصل يا أزهار؟!

وجدت إجلال تهرول عليهما لتجاور شقيقها فابتسمت بشدة بينت صفي أسنانها لرؤيتها لانكسار تلك الجبروت حيث ظهر الحزن جليًا على ملامحها وجفنيها المنتفخين ووجهها الذابل لتنطق من بين أسنانها بتشفي وهي ترمق من كانت السبب الرئيسي في موت زوجها:
-وعدتك ووفيت يا إجلال،أينعم الدفنة مكانتش واحدة، بس مش مهم،الفرق كله ليلة

تزلزل كيانها وتملك الرعب من قلبها وعلى الفور شعرت بنغزة قوية تقتحم منتصف صدرها لتهتف مستفسرة بصوتٍ مرتجف خشيةٍ تصديق الأخرى على حِثها:
– قصدك إيه يا عقربة؟!
إقتربت الأخرى عليها لتقترب حتى لفحت أنفاسها الحارة المليئة بالحقد وجنة الأخرى:
-البقية في حياتك في الكلب نصر، روحة النجسة راحت للي خالقها

إتسعت أعين الحاج محمد ليردد بذهول منبهرًا بقوة تلك المرأة الشجاعة التي إقتصت لزوجها بكل قوة وشجاعة:
-خدتي بـ تارك يا أزهار؟!

إبتعدت قليلاً لتجيبه بفخر:
-وريحت جوزي في تربته يا حاج محمد،جهزوا صوان العزا

لتكمل بسخرية وهي تطالع تلك المكسورة التي تجبرت على الجميع من ذي قبل:
-الحاج هارون هيتعمل له أحسن صوان عزا متعملش لمأمور المركز السابق بذات نفسه
لتتابع بشماتة وقهرة قلب زوجة فقدت سندها وزوجها الحبيب:
-والكلب اللي غدر بيه هيندفن من سكات،مفيش مخلوق سواء من البلد ولا براها هيمشي في جنازته

استفاقت وعادت لوعيها لتهجم عليها كما الأسد الجائع وهي تقبض بكفيها حول عنقها بقوة وتجذبها لداخل المنزل لتصرخ بصوتٍ مرعب كزئيرُ الأسد من يستمع له يعتقد أنها ستحرق الأخضر واليابس وكل ما يطالها:
-قتلتي نصر يا بنت الـ…،أنا بقى اللي بوعدك إن دفنتك هتكون قبل دفنة جوزي
هرولت زوجة شقيقها “شريفة” لتجذبها بقوة من بين يديها وهي تقول بحدة:
-سبيها يا مجنونة، الست هتموت في إيدك
إزدادت ضغطت قبضتيها بقوة أكبر لتشهق المرأة التي تحولت عينيها بلون الدم وكادت أن تزهق روحها وهي تهتف بغلٍ لتُبعد زوجة شقيقها:
-إبعدي أحسن لك يا شريفة وبلاش تكسبي عداوتي

هرول محمد ليفك قبضة تلك المتجبرة وينقذ أزهار التي سعلت بشدة لتهتف شريفة زوجة محمد وهي تشير لزوجة نجلها:
-هاتي كباية ماية لعمتك أزهار بسرعة يا آية

هرولت تلك الـ آية لتجلب كوبًا من الماء فاختطفته شريفة لتتحدث بلهفة واهتمام وهي تقربه من فم أزهار لترتشف منه القليل:
-إشربي لك بق ماية وخدي نفسك يا أزهار

كانت تتطلع على زوجة شقيقها وهي تُكرم قاتلة زوجها وتهتم بها دون أدنى إحترام لمشاعرها أو خوفًا منها كالسابق،اشتعل جسدها نارًا وباتت عروقها تنفر ولولا شقيقها الذي يقيدها بذراعيه ويشل حركتها لكانت انقضت عليها لتنهي حياتها،رفعت أزهار عينيها المشتعلة لتتقابل مع خاصتاي إجلال المستعيرة لتنطق الأخيرة بحدة من بين أسنانها مما يدل على مدى ما يسكن قلبها من غضبٍ عارم:
-مش هسيبك يا أزهار،هدفعك التمن غالي،وروحك مش هتكفيني علشان انتقم لنصر

وإلى هُنا لم يعد يتحمل شقيقها تجبرها أكثر فقد طفح الكيلُ وأمتلئ لذروته،دفعها بقوة ترنحت على إثرها حتى أنها كادت أن تسقط أرضًا لولا قوة بنيانها،رفعت عينيها تتطلع عليه ليهتف هو بعينين تقطرُ غضبًا وكُرهًا:
-كفاية بقى يا شيخة،إيه الفُجر والبجاحة اللي إنتِ فيهم دي،مكفاكيش اللي حصل،بتتهجمي على واحدة خدت حق جوزها اللي اتغدر بيه من ناكر الجميل الواطي اللي مطمرش فيه خيرنا وعيشنا وملحنا

اتسعت عينيها وهي ترمقه بحدة متسائلة بذهولٍ وعدم استيعاب:
-إنتَ بتقول لي أنا الكلام ده يا حاج محمد؟!

رمقها باشمئزاز لينطق بصرامة وهو يشير بسبابته محذرًا:
-إسمعي يا بنت أبويا الكلام اللي هقوله ده وأحفظيه لأني مبحبش أعيد كلامي وإنتِ عارفة كده كويس،إسلوبك القديم اللي كنتي بتتعاملي بيه مع الكل تنسيه خالص

رفع قامته لأعلى لينطق بحدة وحسم:
-زمنك عدى وفات يا إجلال،إحنا كنا مكبرينك ومكبرين جوزك إكرامًا لأبوكِ الله يرحمه وكمان علشان ثقتنا في حكمتك وعقلك اللي ورثتيهم عن الحاج ناصف
ليكمل وهو يهز رأسه بيأسٍ:
-بس بعد اللي عملتيه وتخطيتك اللي ضيع الحاج هارون وكسر هيبتنا في البلد،ملكيش عندنا غير النومة واللقمة وأكتر من كده ماتتعشميش،وده إكرامًا لأبوكِ الله يرحمه،لولاه كنت اتصرفت معاكِ تصرف تاني بعد المصيبة اللي حطيتي العيلة كلها فيها

شاح بوجههِ للجهة الأخرى مناظرًا لزوجته تحت اتساع بؤبؤ عيني إجلال التي تستمع لكلمات شقيقها المُهينة وتشعر كأنها داخل كابوسًا يطبق على أنفاسها يكاد يخرج بروحها معهُ،هتف بقوة زلزلت المكان:
-خديها على أوضتها وإقفلي عليها بالمفتاح لحد اليومين دول ما يعدوا وهي ترجع لعقلها

واشار بإصبعيه السبابة والوسطى:
-الباب ميتفتحش إلا لسببين،أولهم صينية الأكل اللي هتدخليها لها في ميعاد كل طقة،أو دخول الحمام، ودول السببين اللي هسمح بيهم، غير كده إنتِ اللي هتتحاسبي لو كلامي ما اتنفذش بالحرف

ترك النساء وتحرك للخارج ليهنئ نجلاي هارون وتحدث بعلو صوته أمام الجمع الذي تجمع على إثر أصوات طلقات النار:
-صوان عزا الحاج هارون هيتنصب الليلة دي يا أهل البلد، وزي ما قالت الحاجة أزهار من شوية، الصوان هيتنصب لمدة تلات ليالي
واسترسل بسبابته مهددًا:
-وكلمة واحدة من اللي حصلت هنا تخرج برة البلد ولا توصل لضابط المركز إنتوا عارفين،عيلة ناصف مبتقبلش بالخاين وسطيهم

هز الجميع رؤسهم بطاعة خشيةً بطش تلك العائلة المتجبرة ليشير لهم بالإنصراف فتحرك الجميع كلٍ لوجهته، بالداخل وقفت أزهار بقوة بعدما استعادت انتظام تنفسها لتتطلع عليها بقوة منتصر وهي تقول بتشفي:
-شرك وحقدك قضوا على جوزك وشردوا لك عيالك،بإيدك خربتي بيتك بعد ما شيطانك وزك ودي كانت نهايتك اللي الناس هتتحاكى بيها لسنين قدام ويغنوها على الربابة

واسترسلت بقلبٍ يتمزق:
-ربنا عادل وميرضاش بقهرة المظلوم،وإنتي وجوزك ياما اتجبرتوا وافتريتوا وظلمتوا

كادت أن تهجم عليها فقيدتاها شريفة وآية وسحباها إلى حجرتها عنوةً عنها تحت صرخاتها المعترضة على تلك المعاملة،اوشكت على الإصابة بالجنون بعد أن وصل بها الحال إلى إهانتها مِن مَن كانوا بالماضي يخشون نظراتها ويقدمون لها فروض الولاء والطاعة كي ترضى عنهم، فمابالك بأوامرها، فسبحان الله المعز المذل.

نصب سرادق العزاء لهارون وحضرهُ جميع عائلات المركز والمأمور والضابط بذاتهما أما نصر فقدم جسده للتشريح لتبين سبب الوفاة وبعد يومين أُفرج عن جثته ليُدفن جسدهُ من قبل رجال الشرطة ولم يحضر دفنته سوى أقرب الأقربون إليه،وقيدت القضية ضد مجهول لعدم ثبوت أو وجود أدلة للبحث عن الجاني.

*****
بعد مرور سبعة أيامٍ
داخل منزل علام زين الدين،كانت داخل غرفتها تعيد ترتيب خزانة ملابسها،فمنذ ذاك اليوم وهي لم تخرج منها سوى لمساعدة العاملات بالمطبخ وتعود لها مرةً أخرى كي لا تتواجه مع ذاك القاسي،استمعت لطرقاتٍ فوق الباب فسمحت للطارق لتلچ إيثار بابتسامتها المعهودة وهي تقول:
-قاعدة لوحدك ليه؟
رفعت كتفيها لأعلى لتقول بلامبالاة:
-كده أحسن للكل،أوضتي أولى بي،واهو على الأقل مش هتسبب لك في مشاكل مع جوزك
إقتربت عليها لتمسك كتفها بلمساتٍ حنونة وهي تقول:
-وأهون عليكِ تسبيني وأنا في عز شهور وحمي وتعبانة،دي حتى القهوة الدكتورة منعاني منها
واسترسلت بابتسامة مداعبة:
-شفتي المأساة اللي أنا فيها،يعني حياتي أصبحت بلا قهوة وبلا عزة،والله حرام اللي بيحصل فيا ده
رمقتها من قمة رأسها لأخمص قدميها لتقول وهي تلوي فاهها بطريقة تهكمية:
-كفاية عليكِ يا اختي سيادة المستشار يمزج لك دماغك

ابتسمت بشدة على كلمات تلك العفوية لتنطق في محاولة لمراضاتها:
-ما أنتِ بردوا غلطتي يا عزة،معقولة تعملي حركة زي دي وإنتِ أكتر واحدة عارفة شر المؤذي اللي إسمه عمرو
رمقتها لتنطق بعينين لائمتين:
-هو أنتِ كمان هتقعدي تقطمي فيا زي جوزك؟
نطقت مبررة:
-أنا أكيد مقصدش وإنتِ عارفة غلاوتك عندي قد إيه

-أيوا مهي غلاوتي بانت…قالتها وهي تنظر للأسفل لتتهرب وتعود إلى ترتيب الخزانة وهي تتابع:
-على العموم أنا مبلومش عليكِ،ده جوزك ومينفعش تقفي في وشه علشاني

أجابتها بجدية:
-عزة بلاش تكبري الموضوع،أنا كام مرة شرحت لك ليه موقف فؤاد كان حاد معاكِ بالطريقة دي،وقولت لك ظروف عمرو وأهله

تنفست عزة بهدوء،هي تعلم أنها ارتكبت خطًأ فادحًا لا يغتفر ولو شخصًا غير فؤاد ما ترك القصة تمر مرور الكرام ولكان عاقبها بشدة،لكنها حزينة وعاتبة عليه من قساوة حديثه الحاد ومعاملته القاسية،فقد عاشت مع إيثار مرفوعة الرأس وكرامتها مصانة،لكنها بذاك اليوم بالتحديد شعرت بهدر كرامتها بالاخص بعدما منعها من دخول غرفة الصغير ومكوثها بغرفتها بالطابق الأرضي،نطقت بهدوء ونبرة مكسورة:
-حصل خير يا إيثار،سيبك مني وإطلعي شوفي جوزك وابنك

علمت أنها لم ولن تعود كالسابق إلى أن يقدم لها ذاك الصارم إعتذارًا واضحًا عما بدر منه من إهانة بحقها،هي باتت تحفظها عن ظهر قلب،تنهدت باستسلام لتتركها وتعود للخارج لتسأل والدة زوجها الواقفة بوسط البهو تتحدث مع مديرة المنزل السيدة”سعاد”:
-هو فؤاد فين يا ماما؟
أشارت لها صوب حجرة المكتب لتنطق بصوتٍ هادئ:
-جوه في المكتب يا حبيبتي

كادت أن تتحرك لولا صوت سعاد الذي جعلها تتوقف لتستمع إليها وهي تقول:
-أنا جهزت لحضرتك التونة اللي الدكتورة عصمت بلغتني بيها يا هانم

تعمقت بالنظر لها تحاول فهم مقصدها لتتابع الأخرى كما الألة الإلكترونية المبرمجة على الحديث:
-وهي جاهزة لو تحبي تاكلي منها النهاردة على العشا
توجهت بالنظر إلى عصمت التي فسرت حديث سعاد:
-أنا قولت لسعاد تعمل لك تونة هنا في البيت،مضمونة بسمك طازة ونضيف،وخليتها تحط لها توابل وفلفل حراق علشان تطعمها لك

-بس أنا مقولتش لحضرتك إني عاوزة تونة…قالتها بجدية لتنطق بحدة خرجت عنوةً عنها لممانعة الجميع لتنفيذ رغبتها بما تشتهيه نفسها:
-أنا نفسي في ملوحة وفسيخ،اظن طلبي مش صعب للدرجة دي

تنهدت عصمت لتشير برأسها إلى تلك اللبيبة التى ذهبت في الحال،تنهدت لتنطق وهي تحتوي كفاي زوجة نجلها بعدما امتصت حزنها من لهجة تلك الغاضبة الحادة ورجحت حدتها لتغيير هرمونات الحمل مع الظغط النفسي والهلع الذي أصابها منذ أن علمت بوجود التوأم وهذا يحدث أحيانًا لبعض السيدات اللواتي يفزعن عند علمهن بحملهن بزوجين من الأطفال،هكذا أخبرتهم الطبيبة لاستيعاب تغييراتها الطارئة:
-أنا عارفة اللي نِفسك طلباه كويس يا إيثار،وحقيقي كان نفسي أجيب لك الفسيخ وتاكليه، بس لما كلمت الدكتورة وبلغتها حذرتني جداً من خطورة الموضوع على الأجنة

ابتسمت لتمد كف يدها تمسد به على وجنتها بحنوٍ في محاولة لامتصاص حالة الغضب تلك إمتثالاً لأوامر الطبيبة:
-وأظن إنتِ أكتر واحدة فينا خايفة على الأولاد
لا تعلم لما تشعر بكل تلك السكينة أثناء حديثها مع تلك السيدة الراقية بكل مرة تتناقشتان فيها،ابتسمت وتنهدت بهدوء لتقول بأسى:
-أنا أسفة يا ماما إني إحتديت شوية في الكلام،بس صدقيني غصب عني،معرفش ليه مودي متغير ومبقتش بتحمل اللي كنت بتحمله زمان
أجابتها تلك الرزينة:
-كل ده من تغيير الهرمونات يا حبيبتي،إن شاءالله بعد الولادة كل ده هيتغير وهترجعي لطبيعتك وأحسن كمان

-إن شاءالله يا ماما،بعد إذن حضرتك…نطقت كلماتها وانطلقت نحو باب المطبخ لتطلب من العاملات أن يصنعن كوبًا من القهوة لزوجها كي تتوجه به نحو حجرة المكتب لتدق الباب ثم يأتيها صوتهُ الجهوري لتفتح الباب وتطل عليه كـ قمرٍ منيرًا أضاء حياته،تحدثت بابتسامة سعيدة كي تجذب انتباه ذاك المنكب على أوراقه بتركيزٍ شديد:
-ممكن أخد شوية من وقت سيادة المستشار

رفع رأسه لينظر إليها من خلف نظارته نظارته الطبية الحافظة للنظر،شقت إبتسامة واسعة ثغره لينطق بتهليلٍ وترحاب وهو يخلع عنه نظارته ويضعها بعلبتها:
-إيثار هانم زين الدين جايبة لي القهوة بنفسها

هم بالوقوف لتشير له بألا يفعل لتقول:
-خليك مكانك أنا جاية لك
جلس من جديد لتقترب منه وقالت وهي تقوم بوضع ما بيديها جانبًا فوق المكتب الخشبي:
-أنا قولت أجيب لحبيبي فنجان قهوة يظبط له المزاج علشان يعرف يركز في شغله كويس

-تسلم لي حبيبة حبيبها اللي حاسة بجوزها ومزاجه…قالها وهو يستدير بمقعده المتحرك بنصف زاوية ويشير على فخده كي تتحرك وتحتله تلك العاشقة،إرخت جسدها لتجلس براحة فوق ساقيه لتميل بوجهها وتقوم بوضع قبلة حنون فوق شفتيه قبل أن تنطق بصوتٍ هائم:
-بحبك
نطق بنبرة رجل عاشق بعدما بادلها قُبلتها السريعة:
-وأنا بعشقك يا عمري
تناولت قدح القهوة لتقربه منه وهي تقول باهتمامٍ واضح:
-إشرب قهوتك قبل ما تبرد يا حبيبي
هز رأسه برفض فهو يريد دلال أنثاه لينطق:
-عاوزة أشربها من إيد حبيبي

ضحكت بدلال لتقول وهي تقربها من فمه:
-بس كده،فؤادي يؤمر
ارتشف البعض منها ليغمض عينيه مستمتعًا بمذاقها اللذيذ وبات يحرك رأسهُ مما يدل على تلذذه،فتح عينيه ليقول بعينين بالغرامِ ناطقة:
-أحلا قهوة دوقتها في عمري كله
ابتسمت لتجيبه:
-بألف هنا يا حبيبي

قربت الفنجان من فمه ليرتشف بعضها بتلذُذٍ وتأثر بدى على وجهه ليسألها بجبينٍ مقطب:
-إنتِ اللي عاملة القهوة؟
تؤ…أجابته نافية ليرفع حاجبه باستغراب وهو يقول:
-أمال إيه السبب إن طعمها أحلى؟!

مطت شفتيها متعجبة لتنطق بملاطفة:
-ميمشيش معاك إني طلبتها لك وجبتها لحد هنا وكمان بشربها لك بإيدي، كل دي مش أسباب كافية تخلي طعم أي حاجة أحلا؟!

لف ذراعيه حول خصرها لينطق بدلالٍ واستمتاع:
-كل حاجة في وجودك وبلمستك غير وأحلا يا قلبي
ثم كرر عليها السؤال بطريقة جدية:
-بس بجد مش إنتِ اللي عملاها؟
أجابته وعينيها تطالع خاصتيه بحنانٍ:
-كنت أتمنى،بس للأسف، القهوة من إيدي حرفيًا ماتتشربش
قالت الأخيرة لتطلق ضحكاتها وهي تتابع:
-في مرة عزة كانت مسافرة البلد عند أخوها،واضطريت أعمل فنجان قهوة لنفسي لأني كنت مصدعة وكان عندي شغل كتير لازم يخلص
كان يستمع إليها باهتمام عاشقًا بكل تفاصيل من ملكت القلب وتحكمت ليسألها بشغفٍ لمعرفة تفاصيلها:
-وبعدين؟
رفعت كتفيها لأعلى وتحدثت:
-مفيش،حسيت إن الحوض مصدع أكتر مني فتنازلت له عنها
ضحك حد القهقهة،تعمقت بعينيه قبل أن تقول بترقبٍ:
-عاوزة أتكلم معاك في موضوع مهم
-مستنيه من بدري…قالها بدهاء لتتسع عينيها وهي تسألهُ بجدية:
-للدرجة دي باين عليا؟!
أشار بكفه نحو كوب القهوة الموضوع جانبًا:
-باين للأعمى من الإهتمام المبالغ فيه واللي على غير العادة

نطقت بحدة وهي ترمقه بضيقٍ:
-بطل سخافة يا فؤاد وبلاش تحسسني إني مهملة فيك
تحركت فوق ساقيه استعدادًا للنهوض ليجبرها على عدم الحركة وهو يقول:
-بطلي إنتِ الجنان والحساسية اللي بقيتي فيها دي
واسترسل محفزًا بابتسامة وهو يداعب أرنبة أنفها بخاصته:
-يلا قولي وكلي أذانٌ صاغية
أخذت نفسًا عميقًا وكأنها تعلم أنها مقبلة على مناقشة حادة لتنطق بنظراتٍ مترجية:
-عوزاك تصالح عزة
ضيق بين عينيه ليسألها مستنكرًا:
-عوزاني أنا اللي اصالحها،ليه هو اللي كل مرة بعمل مصيبة أكبر من اللي قبلها وأبوظ الدنيا بغبائي واستهتاري؟!

نطقت بدلال كي تستجدي موافقته:
-يا حبيبي عزة متأثرة قوي باللي حصل ومن يومها وهي يعتبر حابسة نفسها في أوضتها ومبقتش بتخرج منها

قطب جبينه ليسألها باقتضاب:
-وإيه المطلوب؟!
-تروح تصالحها…قالتها بعفوية لينطق بصوتٍ صارم:
-بس إنتِ كده بتدمري قوانين الدكتورة عصمت اللي وضعتها لنظام البيت من سنين يا إيثار
ليسترسل بجبينٍ مقطب:
-عوزاني أروح أعتذر لواحدة شغالة عندي وياريتني غلطت فيها،لا دي هي اللي عاملة كارثة وبدل ما تتعاقب تتقدر وصاحب البيت يروح لحد عندها ويعتذر

واستطرد ساخرًا من طلبها:
-مش عوزاني بالمرة أتصل بسعاد وأبلغها تجمع لي العمال كلهم علشان الإعتذار يكون مُرضي لعزة هانم؟!

شعرت بالإهانة والتقليل من طلبها وعلى الفور هبت واقفة لتدور للجهة الأخرى حتى وقفت بمقابل مقعده ليفصل بينهما المكتب،تطلعت عليه لتنطق بكبرياء:
-بس عزة مش شغالة عندكم يا فؤاد،أنا لحد وقت قريب كنت بدفع لها مرتبها من مالي الخاص لولا تدخل بابا اللي قال لي عيب ده يحصل في وجودي،وإكرامًا لبابا وغلاوته عندي كان لا يمكن أوافق أبدًا علشان ما احرجهاش
واسترسلت بحزمٍ تحت نظرات زوجها المبهمة والمسلطة عليها وهو يحرك مقعده بطريقة استفزتها:
-عزة بالنسبة لي عمرها ما كانت مجرد ست بتساعدني وبتاخد بالها من إبني يا فؤاد،دي اللي ربنا عوضني بيها عن قسوة أيامي

تنفس ليقف وتحرك إلى أن وصل إلى مكانها وقابلها الوقوف ليقول:
-خلاص متزعليش،أنا كل اللي بعمله ده من باب الضغط عليها علشان متكررش غلطها تاني وتاخد بالها من تضرفاتها بعد كده
تنهد لينطق:
-وعلى فكرة،أنا كمان بعزها ومستجدعها جدًا من اليوم اللي جت لي فيه النيابة علشان أروح لك البلد وأجيبك من بيت باباكِ، بس ده ميمنعش إننا نعترف إنها غلطت وإن لازم يكون فيه عقاب رادع يخلي الشخص يتعلم من أخطائه وياخد باله بعد كده

تطلعت عليه ليتابع بأسف وهو يداعب وجنتها بأصابعه:
-خلاص بقى متزعليش
نطقت بنبرة متأثرة:
-أقول لك على سر، فاكر اليوم اللي عزمتني فيه على العشا علشان تطلب إيدي
تنهدت بألم عندما تذكرت مرارة ذاك اليوم وبشاعته لتتابع شارحة:
-إنهارت وقتها وأنا راجعة بالعربية،لما وصلت البيت مكنتش شايفة قدامي من كتر الدموع،ساعة ما دخلت ولقيتها قدامي جريت عليا واترميت في حضنها وقولت لها ضميني يا عزة،حضنها هو اللي لملم شتاتي وقتها

نزلت كلماتها كخنجرٍ مسمومٍ على قلبه العاشق ليهب واقفًا وفي غضون ثواني كان يقف أمامها لينطق بطريقة دعابية كي يرفع عنها ما تشعر به من ألمٍ وغصة مريرة إثر ما تجرعته من خزلانٍ على يده بالماضي ومن كلماته الأن:
-مهو ده من خيبتك،ما أنتِ لو ست شاطرة بجد كنتي رديتي على تليفوني بدل ما تعملي لي بلوك وأنا كنت جيت أخدتك في حضني ونسيتك كل اللي شوفتيه طول حياتك، مش بس اللي شوفتيه الليلة دي
غمز بعينيه وهو ينطق بجملته الأخيرة لتلكزه بصدره قائلة:
-تحضن مين يا قليل الادب إنتَ،هو أنتَ فاكرني إيه
-دماغك دايمًا حادفة شمال…قالها بمشاكسة ليتابع حديثه الذي أراد به سحبها من تلك الغيمة من المشاعر السلبية بعدما تقرب منها واقترب من شفتيها:
-كنت هاخدك وأطير على أي مأذون وأجيبك بعدها على جناحنا وأمسح لك دموعك والروچ كمان
ابتسمت بابتسامة حنون لتنطق بعينين مترجيتين:
-طب علشان خاطري تيجي معايا تصالحها
أخذ يقلب عينيه بضجرٍ بعدما سأم ذاك الحديث لتتابع بدلال أنثوي:
-علشان خاطري بقى
زفر بقوة ليخرج ما بداخله من مشاعر سلبية ويتحدث بمشاكسة:
-بقى هي الحكاية كده،بتستغلي حبي ليكِ ومكانتك في قلبي وتبتزيني يا إيثار؟
وضعت يدها خلف رأسه لتداعب خصلات شعره بأناملها الرقيقة وهي تتدلل بطريقة أفقدته صوابه لتنطق برجاء:
-وحياتي
تنهد براحة وعينين كساهما الغرامِ وتملكَ لينطق بلسان قلبه:
-حياتك بقت أغلى عندي من حياتي نفسها
سألته بدلالٍ ومازالت أناملها الرقيقة تداعب خصلاته كي لا تفقد تأثيرها السحري عليه:
-يعني هتراضي عزة؟
نطق والعشق يقطر من حُلو كلماته:
-علشان عيونك أنا أعمل أي حاجة

ضمته لأحضانها لتربت على ظهره بحنانٍ وهي تقول بنبرة تقطرُ غرامًا:
-ربنا يخليك ليا ولا يحرمني من حنانك عليا أبدًا

شعر بسكونٍ داخل أحضانها الحنون لم يسبق وتذوقهُ سوى بضمتها،سحبها من كفها لتتحرك بجواره إلى ان وصلا إلى غرفة عزة الخاصة ودقتها هي،لتفتح عزة الباب وتتفاجأ بذاك الصارم يقف أمامها لتنطق بعفويتها المعهودة:
-فؤاد باشا بجلالة قدره جاي لحد المسكينة عزة، هي الدنيا جرى فيها إيه يا ولاد

-تصدقي بالله يا عزة،برغم كلامك ولسانك اللي فيه حتة زيادة ده…قالها بجدية لتبتلع إيثار لعابها خوفًا وعزة هلعًا بعدما أنبت حالها ليتابع ذاك الوسيم بابتسامة جذابة:
-إلا إن كلامك ومناوشاتنا أنا وإنتِ وحشتني

انفرجت اساريرها لتنطق على عجالة بسعادة بالغة:
-إن شالله يخليك يا ابن الأصول
تحدث بما جبر خاطرها:
-متزعليش مني على حدتي معاكِ
اتسعت ابتسامتها تحت حبور إيثار الشديد ليسترسل قائلاً:
-بس إنتِ أكيد عارفة إن نرفزتي يومها كانت خوف على يوسف وإيثار

نطقت بصوتٍ حماسي أظهر كم سعادتها:
-عارفة وعذراك يا باشا، وخلاص مش زعلانة منك،يلا المسامح كريم
ضحك على عفوية تلك المرأة العجيبة لينطق بابتسامة:
-وإنتِ كريمة يا ست عزة
مدت إيثار يدها تحتضن كفها لتسألها:
-خلاص مش زعلانة؟

هتفت بنبرة تقطرُ حماسًا:
-عمري ما أزعل منك،وعلشان أثبت لك من بكرة الصبح هنزل المعادي وأجيب لك أحسن فسيخ موجود عند محلات الباشا
جحظت عينيه بذهولٍ من تلك التي لا تتعلمُ من أخطائها أبداً لتنتفض إيثار وهي تترجاه بعينيها وكفيها ليهتف هو بعينين تطلق شزرًا وكأنهُ تحول إلى غول:
-الست دي مش طبيعية،إنتِ أكيد مجنونة يا ماما

انتفض جسدها لتتراجع للخلف سريعًا وهي ترى قدوم ثورته لتقف إيثار حائلاً بجسدها وهي تقول بتوسل:
-وحياتي عندك ما انتَ متنرفز

كانت عصمت قد تحدثت أمامها في المطبخ أن إيثار تشتهي الأسماك المُملحة لكن الطبيبة حذرتهم لبعض المشاكل لذا فقد طلبت من سعاد تحضير سمك التونة المطبوخ مع بعض التوابل والفلفل الحار ليعطي نتيجة مقاربة وبرغم هذا أنظر ماذا فعلت تلك المهرجة،رفع سبابته وتحدث بصرامة وحزم:
-أقسم بالله يا عزة،ما فسيخة واحدة تدخل البيت، لاكون رابطك ومعلقك في المخزن وأحنطك لحد ما تتخللي وتبقي شبه الفسيخة اللي لسة خارجة من الصفيحة،وبعدها هفصصك وأبعتك لمحلات الباشا تبيع منك بالكيلو

كانت تستمع إليه بفاه فاره غير مستوعبة كم الغضب الهائل الذي اقتحم ذاك الحاد لتنطق بمداعبة لتلطيف الأجواء:
-طب أمانة يا باشا وإنتَ بتفصص متنساش الليمون والطحينة
ستصيبه حتمًا بسكتة دماغية بيومٍ من الأيام،تطلع على زوجته التي تطبطب بكفها عليه ونظراتٌ توسولية كي تُهدأ من روعه لينطق بذهولٍ:
-دي بتهزر،بتقلش يا إيثار

نطقت وهي تسحبه بحدة ليتحركا للأمام:
-علشان خاطري إهدى ويلا نطلع نتمشى في الجنينة شوية
تطلع عليها لتنطق وهي تشير على فمها:
-أنا بعد كده مش هتكلم في حضور جنابك خالص،حكم إنتَ قلبتك تقطع الخلف يا باشا

تدخلت إيثار بينهما لتهدئ الوضع وتفض الاشتباك وبعد قليل تحدثت إليه بابتسامة واسعة أظهرت كم سعادتها:
-على ما تروحوا على الجنينة وتقعدوا هكون عملت لكم كبايتين جوافة باللبن عمركم ما دوقتوا زيهم
إبتسمت إيثار وتحدثت بنبرة حنون:
-تسلم إيدك مقدمًا يا عزة
أمسك كف زوجته وتحرك إلى الحديقة لتتجه عزة نحو المطبخ.

الصفحة السابقة 1 2 3 4 5 6 7 8 9 10الصفحة التالية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

من فضلك قم بتعطيل حاجب الإعلانات لتستطيع تصفح الموقع