رواية الأربعيني الأعزب الفصل الرابع آية محمد
البوح صداه في أضلاعها يضيق ومن غير روحها ترتجي وصلا، وكيف ببقائها تقنعه بعدم الرحيل، تعلم بأن بلوغ غايتها درب طويلاً، والأماني بينهم تبعثرت، فباتت لا تعلم كيف عن هجرها تمنعه، ولم تعد جفونها لغيره تبصر في المدى، فدمعاتها هي من تأنَّس وحدتها، تناست “عائشة” ما يؤلمها، وما أن فرغت من صنع الطعام أسرعت لرص الأطباق على الطاولةٍ قبل عودته من العمل، وفور إنتهائها راقبت الساعة، فإبتسمت حينما وجدت أنها إنتهت في الوقت المناسب، فجذبت إحدى المقاعد ثم جلست تنتظر عودته مثلما كانت تفعل من قبل، خفق قلبها بربكةٍ خافتة حينما وجدت باب الشقة يفتح من أمامها، فأسرعت أليه لتخبره بإبتسامةٍ عذباء:
_حمدلله على السلامة.
حانت منه نظرة جانبية تجاهها، قبل أن يستكمل طريقه تجاه غرفته متعمداً تجاهلها، راقبته بحزنٍ شديد وتبعته للداخل، فوجدته يبدل ثيابه في ثباتٍ تام، فقالت والخوف يسكن أضلاعها:
_أنا حضرتلك الغدا.
لم يكلف نفسه العناء بالرد عليها، بل توجه لفراشه فتمدد عليه بإنهاكٍ، إنهمرت دمعاتها تباعاً وهي ترى الحالة التي وصلوا إليها بسبب والدته، فإقتربت منه “عائشة” ثم إختارت الجلوس أرضاً جوار فراشه، وتمسكت بيديه ففتح “غيث” عينيه ليجدها تجلس هكذا، وقبل أن يصدر أي رد فعل سبقته بالحديث:
_والله العظيم أنا محبيت في حياتي كلها قدك، وبحترمك وبحترم أي حد من عيلتك، بس أنا مش عارفة أعمل أيه عشان أخليك تصدقني وتصدق اللي حصل، أنا أه إتربيت في ملجأ بس أنت عاشرتني وعرفت طبعي.
ورفعت أصابعها لتزيح دمعاتها البائسة وهي تستطرد بإنكسارٍ:
_ومستعدة أنزل معاك حالا وأعتذرلها وأبوس رأسها كمان لو ده هيرضيك.
وقالت كلماتها الأخيرة وإنفطرت بالبكاءٍ، فإستقام “غيث” بجلسته ثم جذبها لتجلس لجواره، فحارب مشاعره القاسية، في محاولةٍ منه لإيقاظ قلبه الغافل، رفع كفه ليقربه من وجهها، فإحتضن خديها بحنانٍ، خفق قلبها بعنفٍ فرفعت يدها تحتضن يديه التي تلامس وجهها، ثم قبلتها بفرحةٍ، جذبها “غيث” لأحضانه فتشبثت به وشهقات بكائها المكبوت تعلو رويداً رويداً، كأنها تشكو إليه قسوة قلبه، وجفاء هجرانه الذي طال لشهورٍ، فأبعدها عنه ثم قال بحزنٍ:
_أنا مكنتش عايز أشوفك كل المدة دي عشان كنت خايف أضعف زي ما حصل دلوقتي.
وتنهد بوجعٍ بدى بخشونة صوته:
_أنا إتحرمت من أبويا وأنا عندي سبع سنين يا “عائشة”، والدتي كانت كل حاجة في حياتي، رفضت تتجوز بعده عشاني، بحاول على قد ما أقدر أعوضها عن كل اللي شافته في حياتها وإستحملته عشاني.
وإستدار بوجهه للجهة الأخرى يزيح تلك الدمعة العزيزة التي تلألأت بحدقتيه، ثم عاد ليستطرد بتأثرٍ:
_وقفت قدامها وعارضت قرارها لأول مرة عشان أتجوزك، كنت فاكر إن الأمور هتبقى أفضل بعد الجواز، بس للأسف إتعقدت أكتر وكل يوم خناقات بينكم وأنا مش عارف أقف في صف مين،كذه مرة بحاول فيها أتغاضى عن اللي بيحصل،بس لما أدخل وأشوفك بتهنيها بالشكل ده فأكيد مش هقف وأتفرج عليكي يا”عائشة”.
قالت بصوتٍ متقطع من أثر البكاء:
_لأن اللي قالتهولي صعب.
وضغطت على شفتيها السفلية بقوةٍ،تحاول التحلي بها للحديث عن ذلك الأمر،والخوف يضربها في مقتل، تخشى أن تفصح عما يزعجها فيبتعد عنها مجدداً، ولكن عليها ذلك، فقالت بقهرٍ:
_والدتك مش بتفوت فرصة إنها تعايرني بالمكان اللي إتربيت فيه، وأخر مرة دخلت فيها علينا كانت طالبة مني إني أعمل آآ…
ضيق عينيه بذهولٍ من إرتباكها الغريب، فعبثت بأصابعها بتوترٍ منعها عن الحديث، فتساءل”غيث”:
_تعملي أيه!
تعمقت بالتطلع لعينيه قبل أن تنطق بما يؤلمها:
_DNA.. لانها شاكة في نسب اللي في بطني.
جحظت عينيه في صدمةٍ حقيقية، فشدد على معصمها بيديه وهو يسألها بحدةٍ:
_أيه الهبل اللي بتقوليه ده، أمي عمرها ما تقول كده.
استندت بيدها الأخرى على صدره ثم قالت بتوسلٍ:
_والله ده اللي حصل، وبعد ما أنت مشتني من هنا جتلها كذة مرة وإترجتها إنها تصلح ما بينا قالتلي إني لو عايزاها ترجعني ليك لازم أعمل الإختبار.
كاد أن يجن في تلك اللحظة، فجذب الإسدال الموضوع على المقعد القريب منه، ثم ألقاه في وجهها وهو يشير إليها بصرامةٍ:
_إلبسي.
قالت بقلقٍ وهي تتفحص ما بيدها:
_هنروح فين؟
لم يجيبها ونهض ليبدل ثيابه، وما أن ارتدت ملابسها حتى جذبها “غيث” للخارج، فدفعها برفقٍ تجاه باب شقة والدته، وقبل أن يدق جرس بابها وقف مقابلها ثم همس لها:
_كنتي عايزة فرصة إني أسمعك وأنا سمعتك دلوقتي دورك تخليني أصدق اللي قولتيه.
لم تستوعب ما قاله الا حينما طرق جرس الباب ثم صعد الدرج سريعاً، ليختبئ خلف الدرابزين يراقب ماذا سيحدث، فما أن فتح الباب حتى صاحت والدته بضيقٍ:
_إنتي تاني، أنا مش قولتلك متعتبيش هنا تاني!
نقلت “عائشة” نظراتها المتعلقة بمكان “غيث” لتتطلع لمن تقف أمامها بتوترٍ، ليس أمامها فرصة سوى التي منحها إياها، والا سيحرمها من ابنها الذي تحمله بأحشائها، والأهم من ذلك خسارتها لحب حياتها، لعقت شفتيها الجافة وهي تحاول إختيار ما ستقول:
_أنا مش عارفة ليه حضرتك بتعامليني بالطريقة دي، إعتبريني زي بنتك ترضي حد يعاملها كده!
قالت بقسوةٍ أوضحت عدم رحمتها:
_معنديش بنات بيتربوا في ملاجئ يا حبيبتي، ثم إني قولتلك قبل كده خليكي ماشية ورايا عشان متخربيش على عشك وإديكي شوفتي بعينك لما مسمعتيش الكلام حصل أيه؟
إنسدلت دمعاتها بضعفٍ،فقالت بإنكسارٍ:
_أسمع كلامك إزاي وإنتي بتشككي في أخلاقي، وبتطلبي مني اللي مفيش ست تقبله على كرامتها.
رفعت يدها لتستند على حافة الباب المطول، ثم رددت بسخريةٍ:
_ لا شريفة أوي يا بت، خوفك ده بيثبتلي إن اللي في بطنك ده مش من ابني.
صرخت “عائشة” بكل ما إمتلكته من قوةٍ:
_حرام عليكي أنتي شوفتي عليا أيه عشان تقولي كده؟
خرجت لتقف أمامها، ثم جذبتها من حجابها الذي كاد بخنق “عائشة”:
_هشوف عليكي أيه أكتر من إن أبوكي وأمك إتبروا منك ورموكي في ملجئ، والله أعلم بقى مين اللي رباكي ولا ربوكي إزاي، بس أكيد تربية بنت أبلسة عشان تعرفي توقعي ابني وتخليه يتجوزك بالسرعة دي، بس وربي ما ههنيكي بيه وهجوزه ست الستات اللي تستهله.
تردد بالأرجاء صوت حذاء يهبط الدرج بخطواتٍ بطيئة، جعلت نظراتهن تتركز تجاه من يهبط للأسفل، تركتها على الفور وهي تراقبه بصدمةٍ، إختلطت بكلماتها الغير مرتبة بالمرةٍ:
_”غيث” حبيبي إنت رجعت أمته؟ تعالى شوف الزبالة اللي جاية تهددني في بيتي.
وقف مقابلها وعينيه تلمعان بالدمع، فطوى صفحة صمته التي طالت:
_أنا لأخر لحظة كنت بكدبها لإني حاسس إنها بتتكلم عن واحدة معرفهاش!
سقط القناع عما كانت تخفيه، فباتت متخبطة لا تعلم ماذا تقول أو تفعل؟ ، فاستدارت تجاهها ثم كادت بمهاجمتها وهي تصيح بإنفعالٍ:
_إنتي عملتي كل ده عشان توقعي بيني أنا وابني يا لمامة.
حال “غيث” بينهما، ليكن عائق بطريقها لأول مرة، تشبثت به زوجته بضعفٍ، وكأنها تستنجد به فنقلت له رجفة أصابعها ما تعرضت له، ألا يكفيه صدمته بوالدته، فلأول مرة يستحقر نفسه لتلك الدرجة، وجدها تمسك يديه وتجذبه تجاه شقتها وهي تردد ببكاءٍ:
_سيبك منها يا ابني دي حية وعايزة توقع بيني وبينك.
جذب يديه منها ثم سألها بذهولٍ:
_إنتي لسه مصدقة نفسك؟ ومتوقعة إني هسمعك تاني..
وأخرج ما كبت بصدره بصراخٍ مؤلم:
_أنا بسببك خسرت حياتي وكنت هخسر ابني وكل ده ليه، ليه بتعاقبيها وبتعاقبيني على حاجة ملناش ذنب فيها، كان ممكن إنتي أو أنا نكون مكانها في يوم من الأيام.
وحاول السيطرة على إنفعالاته قبل أن يتساءل:
_قوليلي كنتي بتحسي بأيه وإنتي شايفاني بعاني من غيرها، إزاي بنيتي سعادتك على تعاستي وإنتي عارفة هي بالنسبالي أيه؟
أجابته بجحودٍ بدى بما قالت:
_حياتك مع واحدة زي دي مش حياة، أنت تستحق بنت ناس وتكون بنفس مستواك الاجتماعي على الأقل، أنت متعرفش أنا بيحصلي أيه لما حد يسألني ابنك إتجوز بنت مين!
فقد القدرة على النقاش أمامها، كيف سيجادلها وهي ليست مقتنعة بأنها مخطئة، مازالت تدافع عما فعلته وكأنها على حق وهو على باطل، لم يكن “غيث” بأفضل حال ليواجه تلك المعركة التي إستنزفته صدماتها، لذا جذب “عائشة” برفقٍ، ثم قال بشفقةٍ:
_أنا حزين على طريقة تفكيرك..إنتي بذلتي جهدك عشان “عائشة” تخرج من هنا وده هيحصل فعلاً بس وأنا معاها.
وخطى بها تجاه الدرج ليغادر المبني بأكمله تحت نظرات صدمتها، ففقدت القدرة على النطق والحركة، راقبته وهو يبتعد بزوجته تجاه سيارته وهي عاجزة عن فعل شيء.
**
عاد “عاصي” للقصر في تمام الساعة الثامنة مساءٍ مثلما إعتاد، فتعجب حينما وجد الأنوار تملئ المكان بأكمله على غير عادته، والأغرب من ذلك سماعه لصوت البيانو الخاص به بلحانٍ قريب لما يعزفه، إتجه “عاصي” تجاه غرفة مكتبه فوجد “لوجين” تجلس محله وتحاول بكافةٍ الطرق تقليد لحانه الذي إستمعت إليه بالصباح، لاحت على وجهه الوسيم إبتسامة جذابة وهو يراقبها تبذل ما بوسعها لتتذكره، فإقترب منها ثم ضغط على لوحته، ففتحت عينيها على مصرعيها لتتفاجئ به يجلس جوارها ويحرك أصابعه ليشاركها في تذكر اللحن، منحته “لوجين” إبتسامة تسللت لأعماق ظلمته ثم تابعت بتعلم اللحن حتى باتت تتقنه بحرفيةٍ، وإنتهوا منه سوياً، فأنثى عليها “عاصي” قائلاً:
_براڤو، حفظتيه بسرعة.
إبتسمت وهي تشير له بغرورٍ:
_لا أنا أعجبك أوي، ميغركش سذاجتي دي.
ضحك على ثقتها الزائدة بذاتها، فقال بشكٍ:
_غرور ولا ثقة؟
أنفضت طرف فستانها الأزرق وهي تجيبه بعَنْجَهيّةٍ:
_الإتنين بإذن واحد أحد.
هز رأسه بسخطٍ ثم نهض ليتجه للخارج، فلحقت به وهي تسأله بإستغرابٍ:
_على فين إنت لسه راجع!
إستدار تجاهها بعدما كاد بتسلق الدرج، ثم أجابها ساخراً:
_إنتي هنا ضيفة ولا هتعيشي دور المفتش!
حكت رأسها وهي تفكر فيما قال:
_تمشي معاك فضولية شوية!
حرر جرفاته التي كادت بخنقه مثلها، ثم قال:
_أوكي نمشيها.
ثم أشار على الطابق العلوي وهو يوضح لها بإبتسامةٍ مصطنعة:
_هطلع أغير هدومي عشان معاد العشا بتاعي ده لو معندكيش مانع.
نفت ذلك بحركةٍ جسدها ثم قالت:
_وأنا هحاول أسلي وقتي لحد ما تنزل، أصلي بصراحة بحاول ألقى بشر في المكان ده أو أي شخص فاضي مش لقية.
عقد حاجبيه ساخراً:
_وحالياً أنا الشخص ده!
أومأت برأسها بتأكيدٍ، فضم شفتيه معاً بإستهزاءٍ:
_عظيم!
وتركها وصعد لغرفته، فجهز ما سيرتديه ثم توجه لحمام غرفته، ولكنه توقف فور سماعه لرنين هاتفه، تعجب “عاصي” حينما وجده “غيث”، فرفع الهاتف لأذنه وهو يخلع حذائه، وإستمع لصوت ابن خالته الغريب نسبياً لنبرته المعتادة وخاصة حينما قال:
_كان عندك حق في كل كلمة قولتلها يا” عاصي”، كنت بتحاول تفهمني إن الغلط من عندها هي مش من مراتي وأنا كنت غبي ومتسرع.
إنتصب بوقفته ثم أمسك بهاتفه جيداً وهو يسأله بإهتمامٍ:
_أيه اللي حصل؟
أتاه صوته التعيس يجيبه عن سؤاله:
_سمعت بودني الحقيقة.
خيم عليه الحزن وهو يتخيل ما الذي أصابه حينما علم بما فعلته خالته، فقال:
_طب إنت فين دلوقتي؟
=في الشقة اللي كنت واخدها إيجار لعائشة.
_إبعتلي الموقع في رسالة وأنا شوية وهكون عندك أنا و”عمر”.
أجابه بترددٍ:
_بلاش يا “عاصي”، أنا مش حاسس إني أقدر أتكلم مع حد في الوقت ده، ويمكن كمان مجيش الشركة بكره، بس ممكن أجيب”عائشة” وأجيلك بكره بليل.
إحترم “عاصي” رغبته بالإنفراد بنفسه، فقال:
_خلاص زي ما تحب وأنا هبقى أخلي “عمر” و”إيمان” يجوا ونتجمع كلنا.
وأغلق الهاتف ثم جذب ملابسه، وولج لحمامه الخاص.
**
ليت الهواء البارد يتسلل لداخله ليطفئ لهيب النيران المشتعلة، إحساسه بالخذلان يستهدفه بلا رجعة، لا يحتمل ذاك الشعور القاتل بكونه جلاد ظالم لأكثر إنسانة أحبها بصدقٍ وإختارها زوجة له، لم يصدق حرفاً واحداً مما قالته عن والدته رغم أنه يعلم جيداً بأنها ليست كاذبة، قضى “غيث” وقته بالشرفةٍ بمفرده، وبالرغم من تشديده عليها بتركه الا أنها إقتربت لتقف على مسافةٍ منه تراقبه بحزنٍ وبكاء جعله يشعر بوجودها، فإستدار ليجدها تراقبه بخوفٍ، حزن في تلك اللحظة على طريقة معاملته معها، فقال بصوته الرخيم:
_تعالي يا “عائشة”.
سماعها لإذنه بالإقترابٍ كان أسعد لحظاتها، فهرولت إليه بخطواتٍ سريعة، وما أن وقفت أمامه حتى قالت ببكاءٍ:
_أنا مكنتش عايزة أسببلك مشاكل مع والدتك أنا كنت عايزاك تعرف بس اللي حصل في الوقت ده وآآ..
وضع أصبعه أمام شفتيها ليقطع حديثها عن الأمر، ثم قال بندمٍ:
_متعتذريش يا”عائشة” ، أنا اللي لازم أعتذرلك ألف مرة، أنا موفتش بوعودي ليكي وتصرفاتي كلها كانت أبشع من بعض، محاولتش أسمعك أو أعرف اللي حصل.
أزاحت دموعها، ثم قربت رأسها منه لتستند على صدره الذي عاد ليخفق بحبها من جديدٍ:
_أنا مش عايزة أي حاجة من الدنيا غيرك أنت.
طوفها بذراعيه، ليغمس رأسه بين خصلات شعرها يشم عبيرها الذي حرم منه، فأبعدها عنه وعينيه تذوب في نظراتٍ عانقت حدقتيها، فإنحنى ليحملها بين ذراعيه برغبةٍ يتدفق بها الشوق بين طياتها، وإتجه بها لعشٍ هجره لثمانٍ شهور متتالية، لتلتقي الروح والجسد وثالثهما العشق.
**
هبط “عاصي” للأسفل، فوجد الخادمة أعدت الطاولة بعشائه المفضل، وبنهايةٍ الطاولة وضعت عشاء مختلف عن طعامه خصيصاً لها، فجلس محله ثم أخذ يتناول سلطاته المفضلة من الأفوكادو، وبعض ثمرات الفاكهة الطازجة، كان يعم الأجواء هدوء إعتاد على مصاحبته في قصره، وفجأة وجد صوت صاخب يسوده، فما كان سوى صوت تلك المزعجة التي إستضافها:
_العشا جهز ولا لسه يا “جومانة”؟
أجابتها الخادمة بأنها وضعت بالفعل العشاء على الطاولة، فما أن ولجت حتى وجدته يجلس على مقدمة الطاولة، وطعامها موضوع على نهايتها، فجذبت طبقها وكوب العصير الخاص بها، ثم أسرعت لتجلس جواره قائلة بضيقٍ:
_حتى وأنا بأكل هقعد لوحدي، أيه الملل ده!
إبتسم”عاصي”، ثم قال وهو يلوك ما وضع بشوكته:
_الضيف مبيغيرش قواعد البيت يا”لوجين”، بيطبع عليها الفترة اللي هيقعدها وبعد كده بيرجع لنظام حياته.
لأول مرة تشعر بتميز إسمها، ربما لأنه يناديها به لأول مرة، تغاضت عما قاله ثم تفحصت ما يتناوله لتسأله بدهشةٍ:
_هو فين أكلك؟
وزع نظراته بين طبقه وطبقها الممتلئ بقطع اللحم والسجدق، مجرد التطلع لما ستتناوله إزعج نظراته فقال بتقززٍ:
_لا أنا كده تمام، خليكِ إنتي في طبقك.
لوت شفتيها بسخطٍ:
_إنت فاكر يعني إني مقدرش أكل الأكل ده.
ضحك على تحديها له، فمسح فمه بمنديلٍ ورقي ثم قدم لها طبقه، فأبعدت طبقها من أمامها ثم تناولت من نفس طبقه وهي تحدجه بنظرةٍ ساخرة، فتابعها بإبتسامةٍ صغيرة، إنتهت من تناول الطبق ثم وضعت الشوكة بمنتصف الطبق الفارغ، ليعم عليها صمت دام لدقائقٍ لتقطعه وهي تهمس بحزنٍ:
_بس أنا لسه جعانه، إنت جايبني هنا عشان تموتني من الجوع ولا أيه؟
ضحك حتى كشف عن أسنانه فبدى وسيماً للغاية، فجذب الطبق مجدداً ثم وضعه أمامها ليشير إليها:
_لا طبعاً، تقدري تكملي أكلك بس أرجوكي بعد كده متتدخليش في شيء يخصني وبالذات الأكل.
رفعت يدها بإستسلامٍ:
_تمام يا “عاصي” باشا، بس أنا مش قاعدة كتير فمن الناحية دي إطمن.
مجرد التفكير في أمر رحيلها جعل الحزن يتغلب على إبتسامته، فكيف إعتاد عليها وساعات قليلة تجمعهما، إنتهت “لوجين” من تناول طعامها، فوجدته يتأملها، تنحنح بحرجٍ ثم قال:
_طب مش هتقوليلي ناوية تعملي أيه بعد كده عشان “قاسم” ميوصلكيش.
تهجم وجهها بغضبٍ:
_لازم تفكرني بالملزق ده لما بفتكره نفسي بتصد عن الدنيا والإنتحار.
عادت الضحكة لتنير وجهه الرجولي، فقال بصعوبةٍ بالحديث:
_معلش بس لازم نتكلم.
ذمت شفتيها وهي تفكر فيما ستفعل، وبعد وقت ليس بطويل قالت:
_والله ما عارفة، أنا حاولت أهرب قبل كده لأي دولة بس كان بيجيبني ابن الملزق.
تعالت ضحكاته بعدم تصديق، فاستطردت بإنزعاجٍ:
_أنا فعلاً معتش لقية حل، حتى لما فكرت أنتحر أنقذني يعني ورايا ورايا حتى لو داخلة القبر.
ونهضت عن مقعدها ثم قالت بنومٍ غلبها:
_أنا أكيد يعني هفكر في حل وهبلغك بيه، بس أنا دلوقتي عايزة أنام بدري عشان ورايا بكره شغل مهم..
عقد حاجبيه بدهشةٍ:
_شغل أيه ده؟
ابتلعت ريقها بتوترٍ ملحوظ، فرسمت ابتسامةٍ غريبة:
_لا متشغلش بالك، هتتفاجئ بالنتيجة بس.
همس بقلقٍ بعدما إختفت من أمام عينيه:
_ربنا يستر.
♥️♥️😍😍🤣